آخر الأخبار

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

♦ النحو الكلي عند تشومسكي وفلسفته اللغوية


◄ الملخص:
في هذه الدراسة سنركز على الفلسفة اللغوية عند العالم اللغوي الأمريكي نوام تشومسكي الذي اهتم باللغة في شقها الخفي والظاهر أداء و فهما من وراء تلك الكفاءة اللغوية المخبأة على مستوى العقل، فنظريته نظرية عقلية بحتة تهتم بالحقيقة الذهنية التي يترجمها الأداء اللغوي، لأن اللغة في نظره تتكون من مجموعة محدودة من الأصوات ومع ذلك فهي تنتج عددا غير محدود من الجمل، فتشومسكي يقول ببيولوجية الآلية اللغوية أي إن مصدر النظام اللغوي عند البشر موجود على مستوى الدماغ البشري، وبالتالي مادام البشر مشتركين في هذا المخ (الدماغ)، فهو يرى أنه بإمكاننا بناء نظرية لغوية عالمية أطلق عليها اسم النحو الكلي أو العام.فما هي الفلسفة اللغوية التي انطلق منها تشومسكي وكيف بنى عليها نظريته اللغوية أو ما يعرف بالنظرية التوليدية التحويلية التي تدور في فلك ما يعرف بالنحو الكلي؟

◘ الكلمات المفتاحية: الأداء اللغوي - الفلسفة اللغوية - الكفاءة اللغوية - اللغة النحو الكلي - النظام اللغوي.
***************************************
►Abstract:
We will focus in this study on linguistic philosophy for the American linguist Noam Chomsky, who had an interest in language in both the hidden and apparent sides through performance and
understanding beyond the language proficiency hidden at the level of the mind, his theory is purely a mental theory that its main interest is mental truth that is translated by language performance, because language, in his view, consists of a limited range of sounds, however, it produces an unlimited number of sentences, and thus Chomsky says the biology of linguistic mechanism which means the linguistic system source for humans exists on the human brain level, and thus as long as humans share this brain, he sees that we could construct a linguistic global theory named as the Universal Grammar Theory.So, what is the linguistic philosophy which Chomsky started from and how did he build his linguistic theory or what is known as the generative transformational theory that revolves in the orbit of what is known as Universal Grammar?

◘ Keywords: language performance-linguistic philosophy - language proficiency-language - Universal Grammar - linguistic system.
****************************************
◘ مقدمة:
إن البحث في القضايا اللغوية يتطلب تمرسا و دقة في العمل خاصة إذا تعلق الأمر بالجانب الفلسفي اللغوي مع عالم لغوي كبير مثل نوام تشومسكي (Noam Chomsky) صاحب النظرية التوليدية التحويلية التي أحدثت ضجة بين الباحثين والدارسين في مجال الدراسات اللغوية لما لها من أهمية بالغة، وانطلاقا من هذا كان هدفنا البحث عن الخلفية الفلسفية التي انطلق منها تشومسكي في بناء نظريته اللغوية.
فما هي الفلسفة اللغوية التي يمكن استخلاصها من الفكر اللغوي لدى تشومسكي ؟
إن المنهج الذي وظفناه واستخدمناه في عمل هذا منهج وصفي - تحليلي باعتباره الأنسب لمثل هكذا أهداف وأبحاث.
◘ بدايات النحو الكلي:
يتزامن ظهور نظرية النحو الكلي (النظرية التوليدية التحويلية) مع الكتاب الذي نشره العالم اللغوي نعوم تشومسكي الأمريكي (Noam Chomsky) سنة 1957 الموسوم بـ 'البني النحوية' (syntactiques structures) الذي يعتبر الدستور الأول للنظرية التي جاء بها تشومسكي، إذ أحدثت هذه النظرية ثورة عالمية كبرى كونها أتت بمفاهيم جديدة لم تكن مستعملة عند العلماء في الدراسات اللغوية من قبل، في مدرسة تؤمن بنظرية لغوية عامة، كما أنها تهتم بالقدرة العقلية المضمرة وراء الكلام والتي تسمى "القدرة" بينما الكلام يعتبر الجانب الإنجازي الذي يمثل المظهر الخارجي للغة (تشومسكي 5).
حيث رفض تشومسكي الخطوات التي طبقها المنهج البنوي في وصف اللغات باستقراء المادة اللغوية وفحصها، باختيار مجموع من اللغات والقيام بتحليلها، بينما النظرية التوليدية التحويلية ترى أن التحليل اللساني لا يتم إلا من خلال الخطوات الأتية:
• صياغة فرضية معينة قائمة على مجموع من القواعد المتشكلة من المواد اللغوية في كل لغة من لغات العالم.
• فحص الفرضية المصوغة، و تطبيقها على مواد لغوية أخرى تابعة للغات أخرى.
• إعادة صياغة الفرضية إذا دعت الحاجة لذلك لشرح الأمثلة اللغوية الشاذة الموجودة في اللغات الأخرى.
• تثبيت صحة الفرضية و البرهان عليها إذا أمكن (الوعر 26-27).
فقد ركز تشومسكي على النحو الشكلي في لغات عالمية عدة، وقد اعتبر هذا المنهجُ القواعدَ أساسًا للنظرية التوليدية التحويلية، وذلك لأن القواعد التي تنظم النحو هي قواعد توليدية تحويلية (الوعر 114) في نفس اللحظة التي يستعملها المتكلم، فإنه ينتج اللغة بتلك القواعد دون وعي منه على المستويين التوليدي التحويلي.
فتشومسكي كان يهدف إلى إقامة نظرية كلية للغات البشرية قاطبة صادرة عن اتجاه عقلي، فهذه النظرية العقلية التي تبناها تشومسكي تنبني في جوهرها العام على ما يمكن تسميته بلا نهائية اللغة، فهو يرى أن كل لغة تتكون من مجموعة محدودة من الأصوات ومجموعة محدودة من الرموز الكتابية، مما جعلها تولد أو تنتج عددا من الجمل التي لا نهاية لها(فهمي حجازي 113-114)، وبالتالي يمكن اعتبار اللغة ظاهرة خلَّاقة وإبداعية انطلاقا من تلك القواعد والأصوات المحدودة.
هناك من يرى «أن نظرية تشومسكي قد أعادت صياغة الكثير من أفكار ومبادئ علم اللغة البنوي وفق فلسفة جديدة، لا شك في أصالتها وجدتها، ورغم ذلك فإن هذه النظرية تتصل بأسباب مباشرة، وغير مباشرة، بعلم اللغة [البنوي)، يدل على ذلك أن تشومسكي عندما حاول وضع قواعد جديدة، لم يبتعد كثيرة عن المفاهيم [البنوية]»( حلمي 8) التي كان لها دور كبير في بلورة أهم مفاهيم النظرية التوليدية التحويلية، نحو مفهومي اللغة والكلام اللذين عبر عنهما تشومسكي بمفهومي البنية العميقة والبنية السطحية.
وهناك مجموعة من المبادئ ركزت عليها النظرية التوليدية التحويلية تمثلت فيما يلي:
أ- الذهنية وليست السلوكية:
الذي كان يعتبر اللغة سلوكا قائما على ما يعرف بالمثيرات الداخلية وكذا الاستجابات الخارجية، فكل نطق صوتي ما هو إلا استجابة لمثير لغوي أو غير لغوي، فقد ركز المنهج السلوكي في هذه الفترة على السلوك الخارجي للإنسان معتبرا إياه مادة للتحليل اللساني مهملا كل العمليات الذهنية الداخلية على مستوى الدماغ البشري، على أن تشومسكي انتقد هذا، ورأى أن المنهج السليم لدراسة اللغة لابد أن يكون منهجاً ذهنيا معتبرا اللغة قدرة خلاقة وفعالة غريزية وفطرية، وببساطة أراد تشومسكي من تحليله هذا أن يشرح اللغة ويعللها من الداخل وليس من الخارج أي لا من خلال ذلك المظهر الخارجي (السلوك) وحجته في ذلك هي طرح السؤال التالي: كيف يتعلم الأطفال الصغار أية لغة، وبشكل تطوري بغض النظر عن اختلاف ثقافاتهم وجنسياتهم وبيئاتهم، فهو يرى أن هذا دليل و برهان قاطع على أن العمليات اللغوية هي عمليات مرتكزة على أسس بيولوجية (الوعر 115).
ب- الشرح والتعليل والوصف وليس الوصف وحده:
النظرية البنوية اعتبرت أن الوصف وحده هدف التحليل اللساني، وبالتالي عملت البنوية على جمع أكبر عدد ممكن من المواد اللغوية لوصفها و تحليلها، و على حد تعبير بلومفيلد فإنه على عالم اللسانيات أن يقصر تحليله اللساني على الوصف اللغوي مبتعدا عن العمليات الذهنية التجريدية الموجودة في الدماغ البشري، وعلى العكس من هذا فقد ركز تشومسكي على التعليل والشرح، إضافة إلى الوصف اللغوي (الوعر 116)، كما لا يريد أن يتوقف عند حدود الوصف اللغوي بل يتعداه إلى إعطاء تفسير علمي دقيق لكيفية حدوث الظاهرة اللغوية حتى نتمكن من معرفة الطبيعة البشرية أينما كانت « فالنحو عنده لا بد أن يهتم بالحدس (intuition ) عند المتكلم، لأنه ليس آلة تصدر أصواتا وفقا لعوامل خارجية، وإنما هناك هذا الشيء الداخلي الذي يجعله يتحرك، وهو متحرر من هذه العوامل. ولما كان الحدس إنسانيا (يشترك فيه جميع الناس)، فإن النظرية كما قلنا تسعى إلى معرفة الظواهر الكلية في كل اللغات» (فهمي حجازي 118)، بهذا التصور الذي جاء به تشومسكي يمكن لعلماء اللغة أن يصوغوا نظرية من خلال تلك الكليات الموجودة بين اللغات قاطبة.
حيث ثار شومسكي على النزعة البنوية، التي تهتم بالوصف دون التفسير العلمي الدقيق للظواهر اللغوية وكيفية عملها-الآليات اللغوية أو ما يسمى بالنظام اللغوي- يقول: « يبدو لي أن نقطة الضعف الرئيسة في مقاربات البنويين لهذه المواضيع -يقصد ما يتعلق بدراسة اللغة والفكر- هو الاعتقاد في غياب التفسيرات العميقة. وفي أن أولى الافتراضات هي ما يجب يسمح بتفسير بعض الظواهر التي يمكن ملاحظتها »(تشومسكي 45).
إن ما طرحه تشومسكي أمر مشروع، ولكن التساؤل الذي لابد أن يطرح هل يعتبر المشروع الذي جاء به تشومسكي والمتمثل في نظريته التوليدية التحويلية أعطى التفسير الصحيح لتلك الظواهر اللسانية التي ينتجها الإنسان خلال حياته اليومية؟ وهل يمكن أن يعطي تفسيرا صحيحا لكيفية فهم اللغة و كذا إنتاجها؟
ج- الاستنباط والاستنتاج وليس الاستقراء والتجريب:
إن المنهج البنوي منهج يختلف في رؤيته لمفهوم الوصفية الذي كان سائدا قبل أواخر القرن التاسع عشر، وقبل ظهور المصطلح الذي يعرف باللسانيات العامة الذي كان يقابل مفهوم المعيارية عند جل الدارسين، فاللسانيات العامة كانت لها رؤية مناهضة لهذا الموقف ورأت بأن لا مفاضلة بين الألسن البشرية، وكذا مستویات استعمال اللغة الواحدة فكلها جديرة بالدراسة والوصف (بن حمودة 18-19)، كلنا يعلم أن المنهج البنوي اعتمد في وصف اللغات العالمية على استقراء المادة اللغوية و فحصها بشكل تجريبي مضبوط، وقد ركز على المواد اللغوية المجموعة من لغات عالمية، ثم يقوم بتحليلها متبعا الخطوات الآتية:
(1) ملاحظة المواد اللغوية.
(2) حدس للمواد اللغوية و أبنيتها.
(3) صياغة فرضية قائمة على نظرية معينة.
(4) فحص الفرضية من خلال ملاءمتها للمواد اللغوية (الوعر 116).
إن هذه الخطوات الأربع تجعل الأسلوب البنوي مؤهلا من أجل التحليل اللساني، لأن يكون بحثه بحثا قائمة على أسس علمية، فقد طبق هذا المنهج على لغات العالم عدة مرات.
◘أسباب رفض المنهج البنوي:
لقد رفض تشومسكي رفضا تاما منهج التحليل اللساني البنوي الذي جاء به فيردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure)، فهویری-تشومسكي- أن هذا المنهج أسلوب آلي مهمته تمثلت في الوصف اللغوي ليس إلا، وحتي يتسني لعالم اللسانيات تحليل اللغة عليه أن يقترب من الوسط الاجتماعي للمتكلمين الناطقين بلغتهم، وذلك لسبر الكفاءة أو المقدرة اللغوية الفاعلة والمنفعلة في الدماغ البشري، وبعدها ينتقل لصياغة الفرضيات الشكلية المؤدية إلى نظرية لسانية شاملة، ثم البرهنة على تلك النتائج بدقة وموضوعية، وإذا كان للنظرية البنوية خطوات في التحليل اللساني (الوعر 116) فإن النظرية التوليدية التحويلية كذلك لها مجموعة من الخطوات تعتمدها في التحليل اللساني جاءت على النحو الآتي:
(1) صياغة فرضية معينة قائمة على مجموعة من القواعد المتشكلة من المواد اللغوية في كل لغة من لغات العالم.
(2) فحص الفرضية الموضوعة وتطبيقها على مواد لغوية أخرى تابعة للغات أخرى.
(3) إعادة صياغة الفرضية إذا دعت الحاجة لذلك لشرح الأمثلة اللغوية الشاذة الموجودة في اللغات الأخرى.
(4) تثبيت صحة الفرضية و البرهان عليها إذا أمكن (الوعر 117).
فنظرية تشومسكي تسعى جاهدة أن تفهم كيف يستطيع المتكلم أن ينتج عددا من الجمل التي لا حصر لها بطريقة لا إرادية، كما أنها تحاول أن تُميِّز ما هو مقبول نحويا مما هو غير مقبول، فالنحو المقبول في نظرها هو الذي يكون صالحا لتوليد كل الجمل النحوية في اللغة، وعليه عرف هذا النحو بالنحو التوليدي (فهمي حجازي 117)، فإذا توصلنا لهذه الكليات التي تربط بين لغات العالم تمكنا من بناء نظرية تسهل علينا فهم إنتاج الإنسان للغة، وكيف تعمل آلته اللغوية.
◘ مفهوم النحو الكلي:
تشومسكي عرف النحو أو ما يسمى بالنحو التوليدي بقوله: «نظام من القواعد التي تقدم وصفة تركيبية للجمل بطريقة واضحة، وأكثر تحديدا، وهذا هو المراد بالنحو التوليدي، وكل متكلم تكلم لغة، يكون قد استعملها واستبطن نحوا توليديا، وهذا لا يعني أنه واع بالقواعد الباطنية التي يكون قد استعملها أو سيكون على وعي بها. إن النحو التوليدي يهتم بما يعرفه المتكلم فعلا، وليس ما يمكنه أن يرويه من معرفته....» (تشومسكي 19)، من حيث إنتاج الجمل اللغوية، وكذا تأويلها وفهمها دون قصد لذلك، ودون إرادة إنسانية تجعل البشر يشعرون أو ينتبهون لذلك الإنتاج اللغوي، «فالنحو هو عبارة عن نظام من القواعد العامة التي تسمح بتعداد الجمل النحوية، أي أن يعتبر میكانزما قادرا على توليد مجموعة لا متناهية من الجمل» (الشكيري 20) التي يحتاج إليها المتكلم في حياته اليومية من أجل التواصل والتعبير عن مكنونات النفس.
إذن النحو التوليدي التحويلي ليس مجرد جهاز يسمح لنا بإنتاج الجمل بل إنه المعرفة غير الواعية بهذه القواعد، التي تؤهلنا إلى القدرة على استعمال اللغة التي ولدنا بها دون عناء أو جهد يذكر، والنحو التوليدي يهتم بوصف الجمل بطريقة واضحة وجلية، باستعمال القواعد الباطنية باعتبارها آليات وميكانزمات داخلية لتلك اللغة، فهو يسعى جاهدا إلى توليد عدد لا متناه من الجمل، وهذا ما عبر عنه تشومسكي بالنحو الكلي أو العام.
إن هذه الملكة اللغوية التي يشترك فيها البشر يرى تشومسكي أنها تمر بمراحل ثلاث هي:(الفهري 42-43)
أ- مرحلة فطرية: وهي المرحلة الأولى للدماغ أين تحدث التفاعلات اللغوية الموجودة بكيفية وراثية عضوية دون عوامل أخرى كعملية الاكتساب مثلا.
ب- حالة وسيطة: توجد عند الطفل أثناء اكتسابه اللغة.
ج- مرحلة قارة نسبيا: توجد عند الإنسان البالغ (النضج اللغوي) حيث يصبح الإنسان ممتلكا لنظام لغته امتلاكا كليا.
إن هدف الباحث والعالم اللغوي إذن هو تحديد خصائص المرحلة الأولى أي الكشف عن النسق أو النحو الكلي وتحديد مميزاته، كونها تمثل مرحلة جد هامة نسميها بالملكة اللغوية، وما هي إلا نسق (نظام) كلي للتمثل الذهني للغة.
◘ تعريف اللغة من وجهة نظر تشومسكي:
عرف تشومسكي اللغة: «بأنها مجموعة (محدودة أو غير محدودة) من الجمل كل جملة فيها محدودة في طولها، قد أنشئت من مجموعة محدودة من العناصر» (الوعر.(118
فاللغة عبارة عن عملية حركية على مستوى الذهن تنتج عددا محدودا أو غير محدود من الجمل المتباينة في عدد العناصر اللغوية المستعملة أثناء إنتاج اللغة، كما أن هذه الجمل محدودة الطول سواء كانت هذه اللغات الطبيعية منطوقة أو مكتوبة.
إن اللغة لها علاقة وصلة بما يعرف بيولوجية الدماغ التي هي عبارة عن جهاز إعلام آلي يقوم بنظم العلاقات الرمزية اللغوية على نحو دينامي (حركي) رياضي، لأن اللغة ظاهرة بيولوجية (عضوية) تعمل في القسم الأيسر من الدماغ البشري، و بالتالي إذا أصاب هذه الأعضاء أي خلل أو اضطراب فإن ذلك يؤثر حتما على الوظائف اللغوية، والعكس صحيح (الوعر115) باعتبارها المصدر الذي ينتج اللغة بطريقة بيولوجية آلية.
فالعلاقة بين الوظائف البيولوجية والوظائف اللغوية في الدماغ هي علاقة فاعلة ومنفعلة (أي تفاعل) في الوقت نفسه، وهذا إن دل إنما يدل على أن اللغة (الوعر115) ظاهرة فيزيولوجية عضوية تجري عملياتها على مستوى الفم واللسان والحنجرة والشفتين والحلقوم و اللهاة .. إذا حصل مكروه لأحد هذه الأعضاء فإن ذلك سيسبب مرضا نطقيا ما كالتأتأة والفأفأة والتعتعة واللثغة والحبسة ...(الوعر115)
إن العلاقة الموجود بين أعضاء النطق البيولوجية (الدماغ، و العين، والأذن، والفم) واللغة كظاهرة بشرية عامة علاقة جد هامة مما نتج عنها علم يسمی باللسانيات البيولوجية (العضوية) (الوعر115).
فهذا 'إريك لينبرغ' أيضا اعتبر «اللغة فاعلية من الفاعليات البيولوجية الطبيعية في الإنسان، وقد درسها دراسة تشريحية تشبه الدراسة التشريحية الأخرى للجسم البشري»، أي إن اللغة ما هي إلا نشاط عضوي طبيعي مصدره الدماغ البشري، الذي يمكن أن نجري له عملية جراحية تشريحية كباقي الأعضاء الأخرى عند الإنسان لمعرفة كيفية عمل تلك الفاعليات البيولوجية الفطرية.
والهدف الذي كان يرومه أمثال هؤلاء العلماء: «من هذه الدراسات هو بعث المفهوم البيولوجي للطاقات اللغوية وإرجاعه إلى مكانه الطبيعي في الدراسات اللسانية، وذلك من خلال شرح الفرضيات المتعلقة بهذا المفهوم البيولوجي من جهة، ثم توضيح هذه المفهومات من جهة أخرى، بحيث يمكننا أن نخضعها للفحص والتدقيق، فإذا كان ذلك كذلك فإنه يمكننا أن نعتبر الطاقة اللغوية عضوا فيزيائيا من أعضاء الجسم البشري، ثم يمكننا في الوقت نفسه أن ندرس المبادئ الفيزيائية التي يقوم عليها النظام العامل في ذلك الجسم وعلائقها بالمبادئ اللغوية المختصة بالفصائل الإنسانية وحدها» (الوعر172).
فاعتبارا مما سبق نجد أن تشومسكي يرى أن دراسة اللغة والبحث في نظامها لابد أن يمر عبر ما يسمى بيولوجية اللغة كون اللغة عنده طاقة فيزيائية داخلية تنبعث من الدماغ البشري، فما جاء به تشومسكي «قاد إلى ثورة علمية فعلية نجم عنها بروز أنموذج جديد للتفكير في اللغة، أفرز مجموعة من الإشكالات يجب أن يعتني بها اللغوي، وضمنها الاهتمام بالجهاز الداخلي (newparadigm) الذهني للمتكلمين، عوض الاهتمام بسلوكهم الفعلي. ومع الأنموذج بزغ زمن التركيب، حين اتجه اللساني ليس فقط إلى ما هو موجود من السلاسل اللغوية السليمة، ولكن أيضا إلى ما يمكن أن يوجد. واتضح حينه أن إجراءات التقطيع (segmentation) المستعملة في الأصوات و في الصرف لم تعد ناجعة بما يكفي حتى تمتد إلى التركيب»( الفهري 65).
◘ البنية العميقة والبنية السطحية:
إن البنية العميقة والبنية السطحية من أهم المفاهيم التي تعبر عن الفلسفة اللغوية لدى تشومسكي حيث كانت حاضرة بقوة في نظريته التوليدية التحويلية، ومفاده أن لكل جملة بنيتين: بنية عميقة (competence)، وبنية سطحية (performance)، أما البنية العميقة فهي شكل تجريدي داخلي يعكس العمليات الفكرية (الذهنية)، ويمثل التفسير الدلالي الذي تشتق منه البنية السطحية من خلال سلسلة من الإجراءات التحويلية» (مومن 112)، فاللغة في نظره تعتبر عملا للعقل أو آلة للفكر والتعبير الذاتي، وهذا يعني أن للغة جانبين اثنين جانب داخلي وآخر خارجي، كل جملة يجب أن تدرس من الجانبين؛ الأول يعبر عن الفكر والثاني يعبر عن شكلها الفيزيقي كأصوات ملفوظة (فهمي حجازي 124)، فلو أخذنا المثالين التاليين: "سُرِقَ المَنزلُ"بنية سطحية (صيغة المبني للمجهول) أما بنيتها العميقة فهي موجودة في الذهن إذ تتكون من شخص قام بسرقة المنزل، يمكنني القول بأن البنية السطحية عبارة عن مرآة عاكسة لما هو باطن (البنية العميقة):«فهذان المصطلحان الأداء performance والكفاءة competence يمثلان حجر الزاوية في النظرية اللغوية عند تشومسكي، إن الأداء أو السطح يعكس الكفاءة أي يعكس ما جرى في العمق من عمليات، ومعنى ذلك أن اللغة التي ننطقها فعلا إنما تكمن تحتها عمليات عقلية عميقة، تختفي وراء الوعي، بل وراء الوعي الباطن أحيانا، ودراسة الأداء أي دراسة" بنية السطح" تقدم التفسير الصوتي للغة، أما دراسة الكفاءة "بنية العمق" فتقدم التفسير الدلالي لها» (فهمي حجازي 115) فالبنية السطحية بنية تظهر على مستوى السطح عن طريق الكلام المسموع أو المكتوب، أما البنية العميقة فإنها ذلك المعنى الموجود على مستوى الذهن، إنها عملية عقلية تحتية بحتة.
فتشومسكي يرى البنية العميقة قادرة على توليد الجمل اللغوية، وأنها تصف هذه الجمل وصفا بنويا صحيحا، و يمكننا تبين هذه القواعد التجريدية من خلال هذه البنية العميقة المشجرة. {لاحظ المخطط 1} (الوعر 126).




البنية العميقة المشجرة ليست واقعأ لغويا ملموسا بل مجرد فكرة تمتاز بالتجريد للعلاقات القائمة صوريا بين مكونات الجملة، إنها عبارة عن مجموعة من الرموز التي تمثل مجموعات توزيعية مختلفة، إذ الشجرة الواحدة لجميع الجمل التي لها البنية التركيبية نفسها، وحتى يصبح لها دلالة لابد أن نعطي للمتغيرات ما يقابلها من الرموز اللغوية الفعلية (غلفان 62-63.) نحو:
ضرب/ ال/ ولد/ ال/ كرة
أكل/ ال/ ولد/ ال/ تفاحة.
◘ اللغة وعلم الفيزياء:
تشومسكي اعتبر اللغة عضوا فيزيائيا من أعضاء الجسم، فإذا درسنا هذه الطاقة اللغوية توصلنا إلى ذلك النظام العامل في الدماغ البشري وما دام الدماغ البشري واحدا موحدا فإنه يسهل علينا أن نتوصل إلى نظام لغوي واحد، وهذا ما سماه تشومسكي بالنحو الكلي أو العام «وذلك لأن الجانب الداخلي يرتبط بالقدرات الأساسية للعقل الإنساني، وهي قدرات عامة بين الناس، ومن ثم كانت فكرة الكليات universals في المنهج التحويلي» (فهمي حجازي 125) حاضرة بقوة في فلسفته في دراسة نحو اللغة.
كيف يمكن لعالم الفيزياء أن يعرف بأن البنية التركيبية لنظريته الفيزيائية الفلكية تملك واقعا فيزيائيا؟ وبعبارة أخرى كيف يمكن أن يعرف بأن نظريته نظرية صحيحة؟ هذا السؤال محير فعلا للعقل البشري؟ لأن العلاقات النووية الحرارية هي موجودة داخل أعماق الشمس، فكيف تمكنوا من شرح العلاقات النووية داخل الشمس تلك العلاقات التي لا يمكن رؤيتها على الإطلاق، إلا أن علماء الفيزياء توصلوا إلى ذلك من خلال دراستهم للطاقة الضوئية، ثم تحديد عناصرها الكثيفة والمتشابكة وذلك انطلاقا علاقات فيزيائية دقيقة قادرة على توليد الطاقة الضوئية (الوعر 178 179 ). هل دراسة الطاقة الضوئية قد أعطت الإجابة الصحيحة والدليل الحاسم على صحة نظريته الفيزيائية لشرح الواقع الفيزيائي؟
إن دراستنا للفاعلية البيولوجية للكفاءة أو المقدرة اللغوية وعمليات داخل الدماغ البشري تشبه تمامأ تلك الأسئلة والاستفسارات ثم الإجابات عن ردود الفعل النووية الحرارية وعملياتها داخل الشمس تلك الردود الناتجة عن الطاقة الضوئية المنبعثة من المحيط الخارجي.
إذن ما يهدف إليه عالم الفيزياء هو نفسه ما يهدف إليه عالم اللسانيات البيولوجي من خلال الدراسة التجريبية للعملية الكلامية، هو التوصل إلى الفاعليات العاملة في الدماغ البشري، فحتما سينطلق عالم اللسانيات من نظريات وفرضيات معينة مبنية على هذه العملية الكلامية التجريبية المشاهدة ثم ردود الفعل السلوكية اللغوية من أجل شرح وتفسير هذه الفاعليات المخبأة في الدماغ البشري (الوعر 180- 181).
هناك سؤال لابد من طرحه على نوام تشومسكي هل الدراسة التجريبية للعملية الكلامية من خلال الواقع السيكولوجي لتلك الفاعليات العاملة في الدماغ كافية من أجل إعطاء نتائج صحيحة تثبت صحة النظرية اللغوية التي توصل إليها؟
هناك من يرى «أن الشواهد والأدلة المقدمة لشرح الواقع السيكولوجي وإثبات وجوده هي ضعيفة، بل إنها عرضة لتفسيرات وتأويلات مختلفة، أضف إلى ذلك أن الشواهد والمواد المقدمة لعالم اللسانيات البيولوجي لإثبات الفاعليات المخبأة في الدماغ البشري هي أقل رضى وقوة من الشواهد والمواد المقدمة لعالم الفيزياء الفلكي، وذلك لإثبات الفاعليات النيوترينية المخبأة داخل الشمس» (الوعر 182).
وعليه يمكن أن نقول بأن الدراسة التجريبية للعملية الكلامية من خلال الواقع السيكولوجي لتلك الآليات العاملة في الدماغ البشري - باعتبارها مواد و شواهد وأدلة - غير كافية لإثبات صحة النظرية التوليدية التحويلية.
************
♦ خلاصة:
************
خلاصة القول يمكننا إجمالها فيما يلي:
إن الفلسفة اللغوية التي انطلق منها العالم اللغوي نوام تشومسكي هي فلسفة يمكن وصفها بالفلسفة الجريئة و القوية الطرح، فالباحث انطلق من رؤية جد هامة معتبرا اللغة عضوا فيزيولوجيا كغيرها من الأعضاء الأخرى لدى البشر، فعالم اللسانيات البيولوجي المتخصص عليه أن يدرس اللغة انطلاقا من العملية الكلامية الظاهرة للباحث الدارس متوسلا بذلك إلى ما هو خفي التي ما هي إلا آليات لغوية مخبأة بالدماغ يشترك فيها جميع البشر تلك الفاعليات أو الآليات يعبر عنها بالقواعد والقوانين التي تعمل بها اللغة الذي سماه تشومسكي بالنحو الكلي، حيث إذا تمكن الباحثون و الدارسون من التوصل لهذه الفاعليات فإنه يسهل علينا استنتاج لغة واحدة موحدة يتكلمها جميع الناس، فالفلسفة التي انطلق منها تشومسكي نعتقد أنها فلسفة جد دقيقة وعميقة ومرد ذلك إلى أن الإنسان يُولَد مُزوَّدا بهذا الجهاز الذي يجعله قادرا على اكتساب أي لغة أراد تعلمها بعد اللغة الأم.
=================
♦ مصادر ومراجع الدراسة:
=================
1- أحمد مومن، اللسانيات النشأة والتطور، ديوان المطبوعات الجامعية، الساحة المركزية- بن عكنون-الجزائر، ب ط، 2002.
2- حسن خميس، نظرية التعليل في النحو العربي، دار الشروق، الأردن، د ط، 2000.
3- حلمي خليل، العربية وعلم اللغة البنيوي (دراسة في الفكر اللغوي العربي الحديث)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية- مصر، د ط، 1996م.
4- عبد الرزاق دوراري، مدخل إلى النحو التفريعي من خلال كتاب تشومسكي"البنى التركيبية" دراسة تحليلية نقدية، موفم للنشر الجزائر،2007.
5- عبد القادر الفاسي الفهري، البناء الموازي (نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة)، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، ط1، 1990.
6- عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، ط 1993، 3، ج1.
7- مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث، دار طلاس، دمشق۔ سوريا، ط1، سنة 1988م.
8- مازن الوعر، دراسات نحوية ودلالية وفلسفية في ضوء اللسانيات المعاصرة، دار المتنبي للطباعة والنشر، سورية-دمشق، ط1، 2001.
9- محمد الشكيري، دروس في التركيب بين النظرية التوليدية التحويلية والنحو المعجمي الوظيفي (تطبيقات على العربية)، مكتبة دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط-المغرب، ط1،2005.
10- محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة، الدار المصرية السعودية، للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة- مصر، ط4، 2006.
11- مصطفى غلفان بمشاركة امحمد الملاخ، حافظ إسماعيل علوي، اللسانيات التوليدية (من النموذج ما قبل المعيار إلى البرنامج الأدنوي:مفاهيم وأمثلة)، علم الكتب الحديث، إربد-الأردن، ط1، 2010.
12- نعوم تشومسكي، البنى التركيبية، تر: يوئيل يوسف عزیز ومراجعة مجيد السماشطة، منشورات عيون، الدار البيضاء، ط2، سنة 1987.
13- N.Chomsky Aspects de la théorie syntaxique, traduit de l anglais par jean-claud milner,edition du Seuil,1971.
14- Noam Chomsky, Le langage et La Pensee, (t.par lius jean calver), p.b.payot,paris, 1980.
.
.
.
=====================
د/ عامربن شتوح -
أستاذ محاضر"أ" جامعة
عمار ثليجي بالأغواط - الجزائر
Email: ameural73@gmail.com
=====================

الاثنين، 29 يوليو 2019

النظرية التوزيعية: أسس و إنجازات

=======================
إعداد/ الأستاذة فوزية دندوقة
قسم الأدب العربي
جامعة محمد خيضر- بسكرة (الجزائر)
=======================

1- تمهيد:

- يطلق هذا الاسم على اتجاه لساني ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية في حوالي سنة 1930، وهو مرتبط بتفكير سوسير . وأوجه التماثل بين التوزيعية والاتجاهات الأوربية المعاصرة تسمح بوسمها على أنها جميعا من البدائل للبنيوية”[1].
التوزيعية هي النظرية التي تقابل عند كثير من الدارسين “البنيوية الأمريكية”، التي يعتبر سابير من أوائل روادها، وقد نشر كتابه عن (اللغة) عام 1921 بقدر عظيم من الحكمة والتوازن عندما يتحدث عن البنية اللغوية ، فيتفادى التبسيطات الشديدة، والنزعة العلمية السهلة التي سادت فيما بعد، ويصر في مقدمة كتابه على تأكيد (الطابع اللاشعوري والطبيعة اللامعقولة للبنية اللغوية)، مركزا على الجانب الإنساني للغة باعتبارها نظاما من الرموز، فوظيفة اللغة عنده ليست غريزية، ولكنها ثقافية مكتسبة، وبعد أن يدرس المشاكل الصوتية يتناول قضية الشكل اللغوي والبنية القاعدية، فيؤكد أن الحقيقة اللغوية الجوهرية تتمثل في التصنيف، والنمذجة الشكلية للتصورات فاللغة كبنية هي الجانب الداخلي، وأما الشكل فينبغي دراسته من وجهة نظر الوظيفة المنوطة به، ولا بد فيما يتصل بهذا الشكل من التمييز بين الصيغ التي تستخدمها لغة ما في عملياتها النحوية، وبين توزيع التصورات بالنسبة للتعبيرات المختلفة في نماذج “صوتية شكلية”[2].
وبالعنوان نفسه نشر بلومفيلد كتابه عن (اللغة) عام 1933، وعرض فيه للجانب الآخر من النظرية البنيوية المتماسكة، ويعتبر كل من (سابير) و(بلومفيلد) زعيمي المدرسة الأمريكية، وإن كان الثاني أكثر تأثيرا من صديقه، وأفضل تمثيلا لها، إذ تربى على يديه أجيال من الباحثين، حتى عد كتابه أهم دراسة منهجية للغة في القرن العشرين، ومازالت مبادئه هي السائدة بين جمهور الباحثين[3]. وتتحدد البنيوية الأمريكية في الحقيقة بعاملين: بهدفها العملي، وهو ضرورة دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافاتهم التي لم تبحث وتدون آنذاك، وبالبديهيات العلمية للسلوكية[4]، وسنوضح أثر هذه الأخيرة على التوزيعية، فيما هو آت.
2- صاحب النظرية التوزيعية[5]:
هاريس (زيلغ سابيتي هاريس /Zelling Sabbetai Harris 1909)
ولد (هاريس) سنة 1909م في روسيا، ثم قدم في الخامسة من عمره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التحق بجامعة (بنسلفانيا)، أين حصل على الدرجة الجامعية الأولى عام (1930)، وبعد سنتين من ذلك حصل على درجة الماجستير في الأدب، من الجامعة ذاتها (1932م)، وعام (1934) تحصل على درجة الدكتوراه بالأطروحة التي تقدم بها عن قواعد اللغة الفينيقية. ثم عين للتدريس في الجامعة ذاتها، إلى أن انتقل إلى جامعة (فيلادلفيا )، ثم عاد بعد ذلك إلى (بنسلفانيا) واشتغل بالتدريس هناك. أين التقى تلميذه تشومسكي.
أشهر مؤلفات هاريس في علم اللغة ذلك الذي يعد المؤلف الرئيس في علم اللغة التوزيعي، والذي شرح فيه آراءه حول هذا المنهج، وهو كتاب موسوم بـ (مناهج في اللسانيات البنوية)، وبه ظهر هاريس صاحب مدرسة جديدة، إذ خرج على أفكار(بلومفيلد) الذي كان مثله الأعلى في المنهج الوصفي.
سنة 1952 نشر هاريس مقاله (transformar grammar) الذي تحدث فيه عن استعمال الرموز لتحليل الجملة، كما تحدث عن الجملة التوليدية، وعن القواعد والقوانين اللازمة لتوليدها، ولعل هذا المقال هو البذرة الأولى التي انطلقت منها أعمال اللغوي تشومسكي في نظريته التوليدية التحويلية، حيث إنه طور آراءه اعتمادا على آراء أستاذه (في النحو التوليدي)، فطغت آراء التلميذ ونسبت النظرية التوليدية التحويلية لتشومسكي في النهاية، ولم يكن هاريس لينشر هذا المقال – كما يعتقد بعض الدارسين- لولا إحساسه أن منهجه الجديد (التوزيعي) الذي أخذ يدعو له لا يصلح لحل كثير من قضايا اللغة لكنه لم يصرح بذلك، بل حاول تعديل فكرته من خلال طرح فكرته الجديدة التي تأثر بها تشومسكي.
يرى هاريس أن المعنى ليس عنصرا رئيسا في تقسيم الجمل، وتوزيع مفرداتها، متأثرا في ذلك بآراء بلومفيلد الذي يرى أن المعنى هدف بعيد المنال، وعلى الباحث –حتى لا يدخل في متاهات تبعده عن لب الدراسة- أن ينصرف عنه إلى ما هو أهم، وعلى الرغم من هذا التوجه إلاَّ انه وجد نفسه عند التطبيق يتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المعنى الماثل في ذهن المتكلم ، والمورفيمات المستعملة والتركيب الجملي الذي تنتظم فيه هذه المورفيمات انتظاما توزيعيا.
3- المقدمات النظرية للتوزيعية:
ليس من العسير أبَّدا أن نكتشف أن مقدمات العمل النظرية للتوزيعية قائمة بشكل أساسي على مبادئ سوسير، فهي تشبه إلى حد كبير ما صاغه هذا العلامة من مقدمات.
- موضوع الدرس هو اللغة مقابلة بالحديث، وغالبا ما يطلق على اللغة لفظ القانون؛ أي أنها النظام الذي يحكم عملية الاستعمال الفردي (الكلام)، وهي تسمية لها صدى عملي ملموس، وقد كان سوسير قبل أصحاب المنهج التوزيعي قد أكد على أن موضوع اللسانيات (الدرس اللساني) بمختلف مناهجه هو اللغة.
- الآنية: يتسم هذا الدرس بالآنية، لأنهم بإزاء لغات منعدمة الكتابة، و ماضيها مجهول[6]، فالتوزيعيون انطلقوا في بداية الأمر من دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافتهم التي لم تبحث أو تدون آنذاك[7] – كما سلفت الإشارة - وليست الآنية إلا المنهج الوصفي الذي اشتهر به دي سوسير، حيث إنه نادى إلى دراسة اللغة دراسة آنية لأنها كفيلة بإعطاء نتائج مضمونة، وعندما يفرغ الباحث منها له أن ينتقل إلى الدراسة التاريخية التي تتم وفق امتداد زمني طويل، قد يحول بين الدارس وبين تحقيق مراميه بشكل أفضل.
- ” تتألف اللغة من وحدات متفاصلة تفرزها عملية التقطيع ، ويقدم سوسير في هذا المجال رؤية شاملة حول العلامة اللسانية ، وطبيعتها وعلة وجودها، ولكن لا وجه للمقارنة مع ما للتوزيعيين، فلا محل عندهم للبحث النظري، وإنما لمعالجة شديدة الضبط للقضايا التي يوفرها الوصف (ولا يذكرها سوسير) ؛أي كيف نبرز الكلم المميز (المورفيمات)، وهي تقابل عندهم العلامات، و ما هي المقاييس عند ظهور بعض الشك… إلخ” ،ويمكن أن نلاحظ اطراد المقابلة بين الدال والمدلول، واعتبار المورفيم كوحدة دنيا تفيد دلالة يفردها التحليل، لكن جميع ما يتعلق بالمعنى في شتى أشكاله يحذو فيه حذوا ثابتا، وترجع المناقشات حول المورفيمات عادة إلى قضايا تخص الشكل، فالمعنى في حد ذاته لا يدرك موضعه، ولا نحصل إلا على معاينة أوجه التماثل، و أوجه التباين الدلالية.
ارتكز التوزيعيون بشكل واضح على مبادئ دي سوسير، وإن بدا لنا بعض الاختلاف بينهم وبينه، فليس إلا صبغة خاصة أرادها التوزيعيون، لأنفسهم ليتميزوا عن باقي المدارس اللسانية الأخرى.
- تؤلف كل لغة نظاما مخصوصا، وهو ما يقابل الاعتباطية عند سوسير، فموضع الكلمة في البنية محدد بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى، ومن هذه العلاقات تنشأ قيمة كل كلمة[8].
-إن العناصر تتحدد بعلاقاتها داخل النظام، أي بعلاقاتها مع غيرها من العناصر اللغوية في التركيب الواحد، وهو ما يسميه سوسير بالعلاقات الركنية أو السياقية التي تجمع بين كلمات جملة واحدة، حيث تستدعي كل منها الأخرى، لتشكل سياق لغويا ذا دلالة، ولعلنا هنا واقفون على أهم مبادئ النظرية التوزيعية، حيث إنها ترى أن عملية التوزيع السليم الذي تأخذ فيه الكلمة قيمتها وبالتالي علاقات منطقية ولغوية مع بعضها البعض هي التي تصل بنا في النهاية إلى المعنى السليم، ومن هنا جاء اسم النظرية التوزيعية[9]، ولتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي.
تتوزع الجمل في العربية وفق أحد النظامين (في الغالب الأعم)[10]:
الجمل الاسمية: التي يتصدرها اسم (مسند إليه + مسند)
الجمل الفعلية: التي يتصدرها فعل (مسند + مسند إليه)
وقد يخالف مستعمل اللغة أحد التركيبين إلى تركيب جديد بالزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير… دون أن يخالف نظام اللغة، فيوزع مفرداته توزيعا سليما، وفق قانون لغوي يخضع له للتعبير عن تجربة معينة، أو فكرة ما، لكننا قد نكون بإزاء متكلم جاهل بقواعد اللغة، فيوزع ما في ذهنه من مفردات توزيعا مختلا، به يختل المعنى، كأن يقول: نضع الصحن في الطعام، وهو يريد: نضع الطعام في الصحن، فيربط بين الوحدة اللغوية التي تريد فعلا وبين التي تأتي رابطا (حرف الجر)، عوض أن يربط هذه الأخيرة بكلمة (الصحن) ليدل على المكان (الموضع) الذي يوضع فيه الطعام .
4- أثر علم النفس السلوكي على التوزيعيه:
ألف بلومفيلد سنة 1914 كتابا يحمل عنوان (اللغة) ويبدو واضحا أنه في كتابه هذا متشبع بمبادئ السلوكية[11]، و هذا ما جعله يعلن صراحة عن التزامه بهذا المذهب بعده إطارا نموذجيا لوصف اللغة، فقد ذهب إلى أن اللسانيات شعبة من شعب علم السلوكي، متأثرا في ذلك بـ (واطسون/Watson) مؤسس المذهب السلوكي في علم النفس، ولعل هذه القضية من أهم النقاط التي تقوم عليها نظرية بلومفيلد السلوكية، حيث اعتبر اللغة نتاجا آليا واستجابة كلامية لحافز سلوكي ظاهر، وعلى هذا الأساس حاول تفسير الحدث الكلامي من منظور سلوكي بحت.
أطلق بلومفيلد على المنهج الذي اتبعه في دراسة اللغة اسم المنهج المادي أو الآلي، وهو منهج يفسر السلوك البشري في حدود المثير والاستجابة على غرار ما تقوم به العلوم الفيزيائية والكمياوية في اعتمادها في تفسير الظواهر على تتابعات العلة والأثر[12]، وقد استعان في شرح منهجه هذا بقصته المشهورة عن (جاك) و(جيل).
افترض بلومفيد أن جاك وجيل كانا يتنزهان في الحديقة بين صفوف الأشجار، شعرت(جيل) بالجوع، وتولدت لديها رغبة في الأكل، رأت تفاحة على الشجرة، فأصدرت أصواتا عبرت من خلالها عن هذا الجوع، فقفز (جاك) على إثر هذه الأصوات، ليتسلق الشجرة، ويقطف التفاحة، ليقدمها إلى(جيل) التي اشتكت من الجوع أو عبرت عنه، و بعد ذلك يضع التفاحة في يدها، وتأكلها هانئة البال. إن في هذه القصة مجموعة من الجوانب التي تثير اهتمام الدارسين، إذ يهتم الباحث اللغوي هنا بالحدث الكلامي، والتصرف السلوكي الذي ترتب عليه، لأن اللغة في نظره سلسلة من الاستجابات الكلامية لحوافز ليست ميدان الباحث اللغوي، فهو لا يهتم بالعمليات النفسية (الحافز الداخلي) السابقة على عملية الكلام، وإصدار الإشارات الصوتية، بل بدراسة التصرف الكلامي، فيصف ما فيه من فونيمات ومورفيمات توزع في إطار جملي[13].
و قد قام بلومفيد بتحليل هذه القصة كمايلي:
1-أحداث عملية سابقة الحدث الكلامي.
2-الحدث الكلامي.
3-أحداث عملية تابعة للحدث الكلامي.
والشكل الآتي يوضح هذا التحليل:
>R ……………>s……………r >…………S
- الخط المتقطع يمثل الحدث الكلامي الذي يملأ الفراغ بين جسمي المتكلم والسامع
- المثير S: يعادل الأحداث العملية السابقة للحدث الكلامي (إحساس جيل بالجوع، ثم رؤيتها التفاحة).
- الاستجابة R: تعادل الأحداث العملية التابعة للحدث الكلامي (قفز جاك لتسلق الشجرة، وقطف التفاحة لتقديمها إلى جيل).
- الحرفr: يدل على الاستجابة البديلة ( إصدار جيل أصواتا دالة على الجوع، بدل قطفها التفاحة)
- الحرفs: يدل على المثير البديل (أصوات جيل التي تجعل جاك يتصرف كما لو أنه هو الجائع)[14].
إن أثر السلوكية على الدراسات اللغوية واضح جدا، حيث إن اللغة ترتبط ارتباط وثيقا بسلوك الإنسان وبنفسيته، فتراه يستعملها حسب هذه الحالة ،والمواقف التي يخضع لها، أما أثرها على المنهج التوزيعي فيتجلى في رأي سابير الذي يرى أن الفونيم مميزا يعتمد على الافتراضات السيكولوجية[15]. ثم إن التوزيع مبدأ تخضع له الجمل كما تخضع له الأصوات، وهو مرتبط أيضا بالحالات النفسية للأشخاص المتكلمين، فيتأثر بها وبسلوكياتهم، وهو ما جعل مستعمل اللغة يقدم ويؤخر، ويحذف ويزيد… فليست اللغة إلا ظاهرة سلوكية من الظواهر القابلة للملاحظة والمقياس[16].
5- خصائص توزيعية للمورفيمات بالنظر إلى المفردات[17]:
أ- النويات: مورفيمات مكافئة للمفردات.
النواة هي الأصل في جميع الكلمات (المفردات)، وهي الجذر اللغوي الذي يتجرد من كل الزوائد، ولا يمكننا حذف أحد أصواته مهما كان الأمر؛ لأن ذلك يؤدي إلى بتر هذا الجذر، وجعله ناقصا دون فائدة، مثل: قلم، دحرج، كتب، سار، نما، سعى، أبى …
ب- اللواصق: مورفيمات غير مكافئة للمفردات
فليست أصلا في النواة (الكلمة الجذر)، بل تتم زيادتها من أجل زيادة في المعنى لم تكن قبل هذه اللواصق، و لواصق العربية مجموعة في قولنا سألتمونيها أو أهوى تلمسان، وهي أنواع:
-السوابق: لواصق واقعة في المفردات قبل النويات.
يسبق هذا النوع من اللواصق النواةَ (كلمة الجذر)، ويوصل بها و كأنه جزء منها، لأداء وظائف نحوية ودلالية مختلفة، ومثال ذلك زيادة الياء في أول الفعل (دحرج) ليصير (يدحرج) فهذا الزائد في العربية إنما يأتي للدلالة على زمن المضارع، إذا تنتقل صيغة (فعلل) الدالة على الماضي العائدة على ضمير الغائب (هو) إلى المضارع بفضل هذا اللاصق (السابقة).
-الحشو: لواصق واقعة في المفردات بين النويات.
يتوسط هذا النوع من اللواصق الكلمة النواة(المفردة)، فتتغير صيغتها الصرفية، ليتغير معناها، فالفعل (خزن)كلمة نواة، خلت من أي زيادة، ودلت على عملية الخزن، لكنها تدل على مكان الخزن وواسطته عند إضافة لواصق تتعدد مواضعها، فتتعدد بذلك المفردات المولدة، مثل:
خزَّان خ+ز+(ز)+(ا)+ن
خزانة خ+ ز+(ا) +ن+(ة)
مخزَّن (م)+خ+ز+(ز)+ن
خزينة خ+ز+(ي)+ن+(ن)
- اللواحق: لواصق واقعة في المفردات بعد النويات
وهي المورفيمات التي تتلو المفردة، للدلالة على معاني جديدة، كالجمع والتثنية أو التأنيث، أو النسبة… مثل:
جزائر + ضمير المتكلم للجماعة جزائرنا (نسبة إلى جماعة المتكلمين)
جزائر +ياء النسبة جزائري (جزائريان وجزائريون جزائرية)
6- بنية النظام:
يمكن وصف نظام ما من خلال عرض بنيته؛ لأنها توضح عناصره (أو أقسام عناصره) وعلاقات تنظيمها، وردودها بعضها مع البعض الآخر، إذ تنتظم العناصر اللغوية –عادة- في النص وفق ترتيب أفقي يبين العلاقات النحوية، ويوضحها بوصفها أهم علاقة جملية (لغوية).
أمَََّا العلاقات الثانية والتي تكتسي جانبا وقدرا كبيرا من الأهمية أيضا فهي العلاقات الجدولية أو الصرفية (العلاقات الاستبدالية)، وهي التي تمكننا من استبدال العناصر اللغوية في السياقات ذاتها، لأسباب دلالية مختلفة، إذ يبحث المتكلم عن العناصر التي يمكن أن يجعلها بدلا عن عناصر أخرى، وليس هذا الاستبدال إلا إمكانية اختيارية تتعلق بالنظام، ويمكننا استنادا إلى التركيب الذي سبق أن نضع أو نستحضر جملة من العناصر اللغوية التي نستطيع استبدالها بما هو موجود[18].
إنَّ مستعمل اللغة يعود دائما في تركيب جمله إلى هذه العلاقات، ويراعيها، ولو بغير إرادته لأن مخالفتها تؤدي إلى خلل في التوزيع، وذلك بسبب القاعدة اللغوية.
يتوسل التحليل التوزيعي للجملة إحدى الطرق الثلاث:
بالأقواس
((يا) (فرنسا)) ((قد) (مضى)) ((وقت) (العتاب))
بالمشجرَّّ
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
مركب اسمي مركب فعلي
أداة نداء منادى مركب فعلي مركب اسمي (إضافي)
أداة توكيد فاعل مضاف م إ
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
بالجدول (علبة هوكيت) يا فرنسا قد مضى وقت الـ عتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يــا فرنسا قد مضى وقت العتاب
7- خلاصة:
يستند المنهج التوزيعي على اختلاف مدارسه إلى اعتبار اللغة مجموعة من الوحدات التمييزية التي تظهرها عملية التقطيع أو التقسيم، و يعتمد هذا المنهج طريقة شكلية في الوصول إلى المكونات المباشرة (المركبات الأساسية ) والنهائية (الوحدات الصرفية أو المورفيمات). و الغاية من التحليل التوزيعي هي إظهار البناء المتدرج للعبارة[19] .

الهوامش:

[1] - كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة، ترجمة منصف عاشور، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1984 ، ص 38
- صلاح فضل، نظرية البنائية، ص 96، 97، ينظر: خليل عمايرة، في نحو اللغة وتراكيبها، ص 42[2]
- م ن / ص97 [3]
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 78[4]
- أحمد خليل عمايرة، في اللغة وتراكيبها، ص 48 وما بعدها [5]
- كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة ، ص 38 [6]
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 78. [7]
- كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة، ص 39 [8]
- م ن / ص ن[9]
[10] - لن تراعى هنا التراكيب الخارجة عن هذا التقسيم؛ لأنها كما رأى علماء نحو العربية تعود في الأصل إلى أحدهما، وهذا ما جعلهم يجتهدون في إيجاد تخريج لكل صيغة خالفت التركيب الإسنادي الإسمي أو الفعلي، وهو الأمر بالنسبة لجملة النداء أو الصيغ الندائية التي نفتتحها بحرف (لابفعل، ولا باسم)، فكان من النحاة من قال إن أصل الجملة الندائية (يا أحمد) هو: أدعوا أحمد (الياء) هنا نائب عن الفعل الذي حذف وجوبا، لأن ذكره يخرج الجملة من أسلوب الإنشاء (الدعوة والنداء) إلى أسلوب الإخبار والإقرار.
[11]- يعد سابير أيضا من الذين دعوا إلى ضرورة عدم الفصل بين الدراسة اللغوية وباقي مظاهر السلوك وعلم النفس وعلم الاجتماع البشري، لما لهذه الأخيرة من دور بارز في استعمالات اللغة.
- أحمد مومن، اللسانيات النشأة و التطور، ص195[12]
- خليل أحمد عمايرة، في النحو اللغة وتراكيبها، ص 47. [13]
- أحمد مومن، اللسانيات النشأة والتطور، ص 196. [14]
- خليل أحمد عمايرة، في نحو اللغة وتراكيبها، ص64، 47.[15]
[16]- مهدي أسعد عرار، جدل اللفظ و المعنى، دراسة في دلالة الكلمة العربية، دار وائل، عمان، ط1، 2002 ص 35.
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 114 [17]
- م ن / ص42 [18]
[19] - أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص249 ، 250
============


كتاب: السيميائية وفلسفة اللغة


◄ كتاب: السيميائية وفلسفة اللغة.

 أمبرتو إيكو


ترجمة: أحمد الصمعي.


◄( يمكنكم تحميل الكتاب  مباشرة على الرابط التالي: 


تطور الذكاء الاصطناعي بين الرمزي والعرفاني والعصبي

مقدمة:
" الذكاء الاصطناعي (IA) هو مجال علوم الكمبيوتر، وهو مجموعة من التخصصات التي تركز على التفكير وتقليد القدرات البشرية."{1}
إذا كان حرص الإنسان على إيجاد آلات ذكية تساعده في القيام بوظائفه المعرفية يعود إلى الزمن القديم فإن الاختصاص المعرفي الذي اختص في هذا المجال واقتلع مكانه من بين التطبيقات الدقيقة هو معاصر. يشهد الذكاء الاصطناعي في المرحلة الراهنة تطورا اقتصاديا هاما ضمن إطار الإعلامية المتقدمة وقد تم ترجمة هذا التقدم عبر المشاريع الكبرى في البحث الوطني والدولي في الدولة المتحكمة في سيادة العالم وعن طريق التطبيقات التي عرفت نجاحات كبيرة في المجال الصناعي وداخل قطاع الخدمات والإدارة. لقد اعتمد المنظرون للذكاء الاصطناعي على مقاربات متنوعة وتعريفات مختلفة تبعا لتنوع واختلاف التقاليد والإحالات التي اعتمدوها ورجعوا إلى الجذور والينابيع الأسطورية والدينية عند الإغريق والشرق واخذوا من التراث والتاريخ ما يدل على قدرة الكائن البشري على خلق كائنات اصطناعية ذكية شبيهة به.
الإشكالية في عبارة الذكاء الاصطناعي لا تثار من جهة الاصطناعي فهذا المضاف على غاية من البداهة وإنما من جهة الذكاء فهذا الأمر مطلب عزيز وقيمة ثابتة يبحث عنها الكل وتتداخل فيه العديد من العوامل. لقد غمر تأثير الذكاء الاصطناعي العديد من المجالات الحيوية وغطى الكثير من القطاعات الحساسة من الاقتصاد وخاصة الصناعة والبنوك والمالية والنقل والمؤسسة العسكرية والفضاءات التجارية والتسويق. لكن ما المقصود بالذكاء الاصطناعي؟ وماهي عوامل تطوره؟ وكيف تحرك مفهومه حول أنساق معرفية؟ وهل الذكاء معطى طبيعي أم هو مهارة مكتسبة؟ وماهو الفرق بين الذكاء العاطفي والذكاء الاصطناعي؟ ولماذا أدت هذه التحولات إلى ميلاد العلوم العصبية ؟ وماذا حصل تحديدا داخل قطاع الفلسفة البيولوجية؟ وماهي انعكاسات هذه الثورة المعرفية الدقيقة على التصورات الايكولوجية في الحياة والبيئة والمحيط؟
قد يكون الرهان الحقيقي الذي يمكن رصده لهذا المبحث هو محاولة ردم الفجوة الرقمية والدخول إلى العصر الافتراضي من زاوية الذكاء الاصطناعي والمنعطف العرفاني{2} والنظرية العصبية{3} ولكن الأهم من كل ذلك تحفيز العقل الفلسفي بغية توجيهه نحو المجالات التطبيقية والاستفادة من التحولات التي تعصف بعالم المعرفة بغية صناعة الذكاء والارتفاع في سلم التقنية والتعويل على الهندسة والبرمجيات في التخطيط للمستقبل واستشراف الآتي من خلال اللحاق بالركب الحضاري واستيعاب المنجز المعرفي.
1-مصطلح الذكاء الاصطناعي:
" لفترة طويلة ، كان لدى الذكاء الاصطناعي تقاطع واسع مع التعلم الآلي ، وهو نهج يستخلص المعرفة من البيانات. لقد أحدثت التطورات المذهلة في الشبكات العصبية العميقة ، وخاصة في مجال الإدراك الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة ، لكن مجال الذكاء الاصطناعي آخذ في التقلص."{4}
أحاط الكثير من الغموض والالتباس الحقل الدلالي والسياق المفهومي الذي ظهر فيه الذكاء الاصطناعي سنة 1956 وبقي إلى حد الآن محال سجال وقضية خلافية بين المؤرخين ومعظم المتابعين للثورة الرقمية. من جهة أخرى يتعلق الذكاء الاصطناعي بالكيفية التي تنقاد بها الآلات عن طريق خيرة الأدمغة البشرية والحواسيب والأدمغة الالكترونية من حيث هي منظومات رمزية ذات بنية معقدة تؤدي مهمات جديدة{5}. بطبيعة الحال يتضمن الذكاء الاصطناعيIA القدرات المكتسبة التي يحصل عليها الذكاء البشري بشكل عادي على غرار الحصول على المعرفة والتعلم والإدراك والرؤية والسمع والتفكير والاستدلال واتخاذ القرار ويزيد قدرات جديدة دقيقة وأكثر تنظيم ومرتبطة بالماضي أو بالمستقبل في التوقع والاستشراف.
يرتكز عمل الذكاء الاصطناعي على إعادة الإنتاج بواسطة برنامج يتم تخزينه في الحاسوب ويتضمن جملة من التصرفات الذكية دون تدخل الكائن البشري ودون الاكتفاء باستنساخ الوظيفة الأصلية للدماغ. بهذا المعنى يمثل الذكاء الاصطناعي فرعا متقدما من علوم الإعلامية وتقنيات التحكم والتوجيه والتي تندرج ضمن السبيرنيطيقا وتستعمل مجموعة من الآليات الدقيقة من أجل تحقيق عدة مكاسب متطورة{6} .
بيد أن هذا الاقتران بين الذكاء الاصطناعي والإعلامية لا يمنع ما يتميز به من طابع عابر للاختصاصات والمناهج واحتلاله موقع الملتقى ومكان الذي تتقابل فيه جملة من العلوم والتقنيات والأنشطة وتتقاطع فيه. يمكن ربط تاريخ ظهور الذكاء الاصطناعي بمختلف المحاولات التي بذلها العلماء لكي يخترعوا آلات ذكية ضمن المؤسسات والشركات الحاضنة لهم ولقد ارتبطت بالمقاربة السيبرنيطيقية منذ 1956 حيث عمد مجموعة من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية من مختلف الاختصاصات والمشارب على غرار الرياضيات والمنطق والإعلامية وعلم الاجتماع وعلم النفس على بلورة مشروع بحثي مشترك أطلقوا عليه اسم الذكاء الاصطناعي ويجمع بين البرهنة الرياضية على المبرهنات والترجمة والألعاب. بعد ذلك عرفت الفترة الممتدة بين 1956 و1960 وضع برامج علمية وتقنية حول إيجاد حلول عامة للمشاكل أو ما يعرفGPS من طرف سيمون ونويل وتركزت الأعمال حول برامج الترجمة الآلية.
بشكل مواز طور ماكارثي سنة 1959 اللغات الأساسية للبرمجة الخاصة بالذكاء الاصطناعي وكان قد سبقه بعام في البحوث برسبتون روزانبلات بابتكار آلة تحاول محاكاة الوظائف التي يقوم بها الدماغ. أما الفترة التي امتدت بين 1960 و1965 فقد تميزت بهيكلة البحوث حول المواضيع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وتركيز كبير على لعبة الإخفاقات وفق المقاربة الرياضية المنطقية التي تبحث عن ترجمة النشاط البشري من خلال نماذج مجردة وتستعمل برامج ألعاب ووفق الاستبطان والملاحظة الداخلية. شهد النصف الثاني من العقد السادس من القرن الماضي أي 1965 إلى 1970 مراجعات وانتقادات بعد قدم بار-هليل تقريرا حول إخفاق الترجمة الآلية وبعد طبع كتاب مينسكي وبابرت الذي تسبب في إخماد البحوث حول الآلات المنظمة في شبكات وعاد الحديث عن مسألة تمثل المعرفة وطرق استثمار المنطق.
لقد انصبت أعمال نعوم شومسكي حول مسألة فهم الكلام في نفس الاتجاه وتم تنظيم مؤتمر عالمي حول المسألة بحثا عن شرعية المؤسسة الجامعية 69 وصدر العدد الأول من صحيفة الذكاء الاصطناعي1970. على إثر ذلك تميزت الفترة بين 1970 و1978 بالثراء في البحوث والاتساع في المواضيع والمشاركين وانصبت حول فهم الكلام الطبيعي قام بها شردرال وسام وبام وحول أنساق الخبرة مع دندرال وميسين. لقد بدأ الإنسان يعول على الحاسوب لكي يقوم بأفعال ذكية عندما يريد أن يصف عالم مغلق أو عالم صغير وأصبح يوظف المباحث حول تمثل المعرفة في وصف المواضيع التي يتكون منها العالم والعلاقات بينها. بعد ذلك تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال سنوات 1978 إلى 1984 بشكل مذهل وسريع وتعددت أنساق التمثل والخوارزميات وتمكنت من إيجاد حلول للمشاكل المثارة وظهر الذكاء الاصطناعي الرمزي. بعد سنة 1984 لم تعد التجديدات التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي حاضرة بقوة على الصعيد الإعلامي وبدأ التوجه نحو الاستخدام الصناعي للمنفعة الاجتماعية وتوجه الباحثون نحو العمل الأكثر فائدة تقنية. يمكن أن نذكر بعض الأسماء التي ساهمت في قيام الذكاء الاصطناعي على غرار جان بول سانسونات وبول بريتون وتميز بين خمس مراحل في تطور هذا الاختصاص: العقد الخامس من القرن الماضي عرف تفاؤل كبير ناتج عن التغلب على الكثير من المشاكل وإيجاد حلول للصعوبات وظهور الترجمة الآلية والبرهنة على النظريات والاعتراف بالأقوال وصنع ألعاب الإخفاقات.
العقد السادس الذي جاء بعده من نفس القرن شهد انطلاقة سريعة للاختصاص من خلال إطلاق عدد هام من المشاريع والحصول على نتائج معتبرة من اعتماد البحث الاستكشافي والنسق العام لمعالجة المشاكل. العقد السابع يناسب انفجار الأعمال التي سمحت بتركيز أسس الذكاء الاصطناعي في مجال تمثل المعارف وامتلاك مهارات التفكير والاستدلال وفهم الكلام الطبيعي وأنظمة الخبراء وصنع الإنسان الآلي المتطور. العقد الثامن يمثل الدخول الرسمي للذكاء الاصطناعي للحياة الاقتصادية من خلال انجازات تطبيقية لافتة في ميادين محددة وتحقيق معدلات تنمية مشجعة وتزايد المجهود البحثي عن طريق المشاريع الصناعية. العقد التاسع يعرف إدماج أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن الأنظمة الإعلامية الموجودة وانتشارها بشكل عمومي وإحراز تقدم في عدد من المجالات الأساسية التي ترتبط بالمستقبل وخاصة نظم التعلم والتفكير{7} .
من هذا المنطلق تتكون الأنساق التي يشتغل وفقها الذكاء الاصطناعي من المصطلحات المفاتيح التالية:
- معالجة المعلومات الرمزية مثل الأرقام والمفاهيم والوقائع والمعطيات والقواعد والمواضيع.
- استعمال المناهج الاستكشافية بغية الاقتصاد في الوقت المخصص للحساب وحل المشاكل بسرعة.
- الأخذ بالاعتبار نقص المعطيات حول الوضعيات وعدم مطابقة المعلومات لها والتنازع عليها.
- الدور المركزي للمعرفة في اكتشاف الميكانيزمات وتصور الأنساق القادرة على حل المشاكل.
- الطابع المتعدد للمناهج وعابر للاختصاصات للذكاء الاصطناعي يظهر في الحاجة إلى جلب تقنيات متطورة في الإعلامية والبرمجيات بغية تجويد لغة التي تشتغل وفقها الحواسيب والآلات.لكن الذكاء الاصطناعي يستمد قوته من مصادر أخرى على غرار المنطق والعلوم العرفانية واللسانيات والعلوم العصبية والبيولوجيا والفلسفة . فماهي الميادين والحقول التي يغطيها الذكاء الاصطناعي؟
يقوم الذكاء الاصطناعي بالبرهنة الآلية على النظريات ويعالج الكلام الطبيعي المكتوب ويعالج أيضا القول الشفوي بشكل آلي وفوري ويؤول الصور ويسمح بالرؤية بواسطة الحاسوب ويصنع الإنسان الآلي الذي يسعى لتعويض الإنسان العادي في كل شيء ويقوم بكل الوظائف بدلا عنه مثل الألعاب وأنظمة الخبرة{8} .
يبدو أن المقاربة التي يعتمدها الذكاء الاصطناعي هي مرتكزة بالأساس على استعمال المعرفة عن طريق الاستنتاج وتمثل المعلومات ويتدعى ذلك نحو ولوج ماوراء المعرفة عبر توظيف الشبكات الدلالية في الاستشراف والتوقع ووضع الخطط الممكنة وتقديم البدائل الافتراضية وتخيل الفرضيات المستقبلية للواقع. كما يساهم الذكاء الاصطناعي في بناء أنساق متكيفة تجمع بين النماذج الرمزية والنماذج التواصلية تهدف للمحافظة على الذاكرة الترابطية وكونية الذاكرة ثلاثية الأبعاد وتطوير آلات اتصال أكثر قربا وسرعة وإيجاد توثيق دقيق وذكي للمعلومات والبرامج المخزنة بواسطة إستراتيجية الخيارات الأكثر معلوماتية والأقل كلفة والأكثر جاهزية على تقديم الإضافة وإيجاد الحلول للمحركات المعطلة والمتوقفة عن التدفق.لكن كيف يتم استعمال الذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات الواردة ومعرفة الأشكال ومعالجة الصور؟
2- الذكاء الاصطناعي بين المعرفة الراهنة والمستقبل المنظور:
• ماذا يجب أن نقول إلى آلة لكي تمارس التفكير؟ وكيف تتمكن هذه الآلة الذكية من التطور وتراجع أخطاء الماضي وتتأقلم مع المحيط دون أن نحكي لها عن العالم وعجائبه وأسراره ودون أن نشحنها بالمعلومات؟
إن حل معضلة بواسطة إنسان عادي أو إنسان آلي يتطلب توفر عدد كبير من المعلومات وقدرة فعلية على الاستدلال والتفكير والربط والتحليل والمقارنة والتركيب وتتكون المعرفة من مجموعة من الإجراءات وهي المواضيع التي تشكل العالم الواقعي وتتمثل في الوقائع والأحداث والكيانات و الأشياء والعناصر والعلاقات والمجموعات والتصورات الأكثر عمومية واستراتيجيات العلم الصانع وإجراءات الاستدلال. يصل الذكاء الاصطناعي بالمعرفة إلى مابعدها ويمنح الثقة إلى الرؤية إلى درجة التيقن من الاستدلال ويتحول إلى معرفة بالمعرفة ويتمكن من التمييز باقتدار بين المعرفة وآليات استثمارها على أحسن وجه. كما يتفحص الصور ويشتغل عل فهمها ويضع الأشكال ضمن مقولات ويرتب المعطيات بطريقة ستاتيكية ثابتة وبصورة تركيبية متحركة ويعرف أسس المعرفة ويكشف عن الإشارات التي تساعد على التواصل. تعود مشكلة تمثل المعرفة إلى التسجيل التوثيقي الذي تتم به عن طريق الأشكال الرمزية واستثمارها داخل نسق من الاستدلال وتجمع بين بنية المعطيات التي تمثلها المعلومات والطريقة المعتمدة التي تستثمر بها {9} . بعد ذلك تسمح آلية الاستدلال المتبعة باكتشاف معلومات ومعارف جديدة بصورة ديناميكية حول المشكل المطروح للمعالجة وترتكز على التمثلات المنطقية وقواعد الإنتاج والشبكات الدلالية والمواضيع المهيكلة. هكذا يتحرك الذكاء الاصطناعي بين المشاكل المثارة وتمثلات المعرفة والاستدلالات الفكرية والنماذج النسقية والمعالجات التطبيقية لإيجاد حلول للقضايا والقيام باكتشافات جديدة وتمكين الإنسان من التحكم. بلا شك أن الذكاء الاصطناعي يمارس تأثيرا كبيرا على تصور المجتمعات للأنظمة المعلوماتية التي تستعملها وأنه يتحكم في حقول البحث والتطوير في المستقبل ومجالات الاستشراف والاستراتيجيات ويساعد على تجديد التعلم الرمزي وتجويد الأنظمة الذكية وتوسيع التحليل ليشمل المعطيات المعقدة {10} .
ولا يقتصر الذكاء الاصطناعي على حل المشاكل بواسطة الدماغ البشري والحاسوب الآلي بل يوفر نماذج جديدة للاستدلال تأخذ بعين الاعتبار التمشي البشري في الإدراك والاستيعاب والتفاعل وتضم الافتراض والتناسب من جهة الزمن والكيفية والمعماريات المتكيفة مع الواقع ومجتمع المعرفة والترابطات العصبية. بعد ذلك مر الذكاء الاصطناعي إلى السرعة القصوى وشهد حدوث عدة ثورات واجتاز مختلف المراحل وصار اختصاصا جامعيا هاما مثل بقية الاختصاصات ودخل إلى حقل التطبيقات الصناعية والتكنولوجية.
إذا كان الذكاء الطبيعي يخص الإنسان ويتميز بالموهبة والنور الفطري فإن الذكاء الاصطناعي ينتمي إلى الحاسوب الآلي ويمثل مشروعا علميا مدهشا ويحمل مجموعة من المصنوعات والتحف والقطع الذكية . يبقى الغرض من الذكاء الاصطناعي يكمن في اتجاه الجماعة العلمية نحو بناء نماذج إعلامية تسمح بإعادة إنتاج التصرفات الذكية من خلال التقليد والمحاكاة بواسطة إعادة استخدام الآلات في الوظائف الكبيرة مثل عمليات الفهم والاستدلال والتعرف والتعلم والاختبار والتصرف بطريقة منظمة وحذرة في السياق المحدد. يتطابق تعريف الذكاء الاصطناعي مع النظر إلى الاختصاص الأول في الوقت الراهن والذي يشتغل عليه مجموعة من العلماء والمهندسين والخبراء والباحثين في مجموعات علمية وفرق بحثية متنوعة ومتداخلة. ينقسم الذكاء الاصطناعي إلى اتجاهين:
◇ الاتجاه الأول: يرى بأن الذكاء الاصطناعي الرمزي يعتبر نفسه الاختصاص المركزي الذي تتحرك حوله جملة من الاختصاصات الأخرى على غرار الألسنية وعلم النفس ويهتم بالوظائف العرفانية العالية وبحث عن قوانين عامة تسمح بوصف وإعادة وصف العالم ويقر بأن البلورة الإعلامية تعيد إنتاج التصرف الموصوف بالذكاء بصورة تكاد تكون وفية ومطابقة وتحوز بهذا التفسير على صلاحية نفسية وعرفانية متينة.
◇ الاتجاه الثاني: يمثله الذكاء الاصطناعي العصبي ويرتكز على الفيزيولوجيا العصبية ويعتبر القوانين العامة تنبثق بصورة طبيعية عن طريق التعلم ويقر بأن البرنامج يمكن أن يحاكي بطريقة خارجية ناشطا ذكيا حيث تكون المداخل مطابقة تقريبا مع المداخل والمخارج التي يقوم بها الإنسان في وضعية مماثلة، ويبحث في أشكال المحاكاة بين اشتغال الحاسوب والاشتغال البشري. لكن وحدة الهدف المتمثلة محاكاة الذكاء وإعادة إنتاجه هي التي تجمع بين الاتجاهين الرمزي والعصبي.
في نفس السياق يؤدي انتقال الذكاء الاصطناعي من التحرك حول الإعلامية الكلاسيكية إلى الإعلامية المتقدمة إلى ارتباطه بالهندسة والتخلّى عن الطموحات الشمولية التي يدعيها واقتصر على معالجة الذكاء في مجموعه. تسمى الحقبة الرمزية تلك التي يستند فيها الذكاء الاصطناعي على تمثلات للعالم الخفي بواسطة عدد من الرموز وأضيف إليها الترابطية أو العصبية التي تتحدى البرنامج الأصلي للذكاء الاصطناعي الرمزي{12}.
إذا كانت المقاربة العصبية{13} تعتبر أن الذكاء الاصطناعي الرمزي قد وقع في تشويه كبير حينما قام بمعالجة المشاكل العرفانية {14} التي تنتمي إلى مستوى عال على غرار الاستدلال وفهم الكلام بدل الاكتفاء بمعالجة مشاكل شبه عرفانية تبقى قريبة من قوام الذكاء والمتمثل في الدماغ فإن المقاربة التواصلية تبحث عن محاكاة الدماغ في مستوى تنظيمه الداخلي وبنيته الهيكلية وفي مستوى تدفق المعلومات وعن إيجاد حلول كافية المشاكل التي صعب على الذكاء الاصطناعي الرمزي معالجتها بشكل كاف ومرضي. بطبيعة الحال تحوز المقاربة الترابطية على الذكاء عن طريق بعض الانجازات الإعلامية في رؤية الحد الأدنى وعبر القدرة التي يمتلكها النسق على تفعيل ارتباطات بين الوحدات العرفانية التي يتكون منها{16}.
لم يبق الذكاء الاصطناعي مجرد استعارة تنتمي إلى ماضي العلم وإنما تطور بشكل واثق وأصبح واقعا ملموسا وتكاثرت المقالات المبتكرة والبحوث المتطورة فيه وتوصلت إلى نحت جهاز مفاهيمي خاص به. كما يعتمد الذكاء الاصطناعي على نماذج ابستيمولوجية مرنة وخوارزميات تكوينية معقدة ويقوم بكشوفات رياضية مبتكرة وتطبيقات فيزيائية وبيولوجية ثمينة ويجمع بين الترابطية وإستراتيجية العجلات العصبية. أما التحليل الآلي الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي للغة الطبيعية فيقوم على التحليل الحتمي للكلام إلى وحدات وعناصر أساسية وبعد ذلك ينتقل إلى الكشف عن شبكات التحويلات والانتقالات المضاعفة ويحرص على تخليص آليات الفهم من الأخطاء ويقوم بتقسيم النحو إلى جوانب صورية ومقولية ودلالية وعرفانية ويعالج الصعوبات التي تحدث عند الكلام ويوفر أدوات مساعدة على النطق والتعبير والتبليغ ويطرح استراتيجيات لتحليل الخطاب ومعالجة الكلمات وتنظيم مصادر المعرفة والرجوع إلى الإحالات. أما المنطق الذي يفكر به الذكاء الاصطناعي فلا يقتصر على المنطق الكلاسيكي الذي يظل يدور حول البديهيات والمبادئ والأوليات الموروثة عن الإغريق والمطورة بواسطة الرياضيين المحدثين وإنما تشمل المنطق الجديد الذي ينجز حسابات حول القضايا والمحمولات والعلاقات من جهة الدلالات والخصائص والتركيبات البنيوية ويمتحن الأوليات ويراجع البديهيات ويغير في جل المنطلقات والمصادر والتطبيقات. مراكز عمل الذكاء الاصطناعي هي تطبيقاته على الهندسة المعمارية وعلم الفلك والفزيولوجيا والآلات الرمزية التي تجري معالجة رمزية للغة التقنية وتحوز على قدرة حسابية عالية وتتمتع بوظيفية ناجعة وتقوم بحل المشكلات المثارة عبر انتقاء التمشيات الملائمة وتطوير عملية البحث بالمناهج الاستكشافية. فكيف اعتمد الذكاء الاصطناعي على المنطق الحدسي الذي يرفض كل بناء غير بنائي في بعد قضووي؟
■ خاتمة:
على الرغم من عدم توفر تعريف محدد حول مسالة الذكاء الاصطناعي وبقاء هذا المصطلح محور خلاف ويعيش حالة جدلية إلا أن تقريبه من علم الحاسوب قد ساعد على تنزيله ضمن علوم الإعلامية وإدراجه داخل الثورة الرقمية التي تعيشها البشرية في الراهن وإتباع سلوك البرامج الحاسوبية في محاكاتها لأنماط عمل القدرات البشرية واكتسابه مهارات في الاستنتاج والتعلم ورد الفعل في أوضاع غير مبرمجة. لقد تكمن الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال من التشخيص السريع والدقيق للأمراض أكثر من أطباء الاختصاص حيث تتفوق برامج الحواسيب في التشخيص على تجارب يشارك فيها عدد كبير من الأطباء. لم يصبح الذكاء الاصطناعي اختصاصا مستقلا وقائم الذات بل يشير إلى جملة من المفاهيم والنظريات والتقنيات يتم استخدامها وإتباعها بغية بلورة مجموعة من الآلات تكون قادرة على محاكاة الذكاء البشري. لعل الذكاء الاصطناعي هو أكبر أسطورة في هذا العصر يستدعي العلوم العرفانية والبيولوجيا العصبية والمنطق الرياضي وعلوم الإعلامية ويبحث عن مناهج مبتكرة ودقيقة تساعده على حل المشاكل المعقدة. يواجه الذكاء الاصطناعي الكثير من العراقيل والصعوبات التي تمنعه من التقدم وتعيق تطره وذلك راجع إلى هيمنة الطبيعي على المصنوع وتعود العقل البشري بمنح الأولوية للتجريد على التطبيق والاختراع. منذ أن بحث الإنسان عن طرائق ومواد وبرامج تساعده على صناعة الآلات الذكية والحواسيب المفكرة كان أمله معقودا على نجاح هذه المصنوعات في اكتساب قدرات في التعلم الرمزي وفق أبعاد عرفانية. يعتمد الذكاء الاصطناعي على التعلم بواسطة التفسير والتحليل والشرح والفهم والإقناع ويقوم بالمراوحة بين ادارك العالم الحاضر وتوقع بالمستقبل المباشر أو البعيد ويعالج جملة من الأفعال لبلوغ غاية محددة. بيد أن رؤية الإنسان لنفسه وتفاعله مع المحيط التي يقترحها الذكاء الاصطناعي تبدو مختزلة وجزئية وتبسيطية وجملة الأفعال الإنسانية هي متقطعة إلى أقسام جزئية ومستقلة تماما عن فاعليها الحقيقيين. لقد تم تصور الإنسان على أنه آلة مفكرة وحاسبة ووقع التخلي عن كونه ذات مدركة لهويتها وللعالم ومتفاعلة مع محيطها ومتعاطفة مع غيرها من البشر وتقيم علاقات متشابكة وأساق رمزية وسردية. لقد ارتبط مصير الذكاء الاصطناعي باندلاع الثورة الرقمية وظهور الإنسان الآلي وقدرة الربوتيك على انجاز المطلوب منه بجودة عالية وبالشركات البنائية ذات الأبعاد الحضرية وإطلاق المنصات الإعلامية. في نهاية المطاف يبدو من المهم فهم صورة الإنسان من منظور البرمجيات التي توفرها الآلات الحاسبة ولكنه من غير المتاح أن يحقق جل طموحاته الوجودية وأهدافه المعنوية إذا ما اختزل نفسه في آلة ذكية. فمتى يتخطى الذكاء الاصطناعي عتبة التعميم والتشخيص والاستنتاج ويتحول إلى قوة اختراع وإبداع؟ إلى ماذا تشبه الآلات الذكية غدا؟ وهل يحق للعقل البشري أن يتخوف من تطور الذكاء الاصطناعي؟ وماذا لو أصبح الدماغ البشري خاضعا لسلطة الذكاء الاصطناعي؟
=============
الإحالات والهوامش:
=============
[1] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.
[2] Tournant cognitif
[3] Théorie neuronale
[4] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.
[5] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993. p705
[6] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p705.
[7] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p706.
[8] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p708.
[9] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p709.
[10] Voir J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.
[11] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris, p710.
[12] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.
[13] Approche neuronale
[14] Problèmes cognitives
[15] Connexionnisme
[16] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.
المصادر والمراجع:
J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.
Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993.
Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.
==============
○ زهير الخويلدي
2019 / 4 / 13
==============