آخر الأخبار

الأحد، 28 يوليو 2019

علم اللغـة النشأة والملامح والمناهج والصلة بالعلوم الأخرى

◘ تاريخ الدرس اللغوى:

• تساؤلات حول النشأة:
لما كانت اللغة قديمة قدم الإنسان، فالاهتمام بـها موغل فى القدم أيضًا، فلقد شغل العلماء تفكيرهم لعدة قرون بالبحث عن نشأة اللغة الإنسانية، وما أقدم لغة فى العالم؟ وهل نشأت جميع اللغات من مصدر واحد (اللغة الأم)؟ وما اللغة المستخدمة فى الجنة، وكيف تتابعت الكلمات منذ البـدء ؟
تساؤلات عديدة مرت بالتجارب والنقاش الذى يعود إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف عام مضت، ولم يتوصل أحد للإجابة الشافية عن هذه التساؤلات الحائرة حول نشأة اللغة.
وأخذت الأجيال المتعاقبة تطرح التساؤلات نفسها دون الوصول إلى إجابة يقينية.
وفى القرن التاسع عشر - فى عام 1866م - أصدرت الجمعية اللغوية بباريس قانونًا يمنع مناقشة هذا الموضوع فى الندوات واللقاءات العلمية التى تقام بشأن اللغة؛ وذلك لأن علم اللغة الحديث يتناول اللغة تناولاً علميًّا، يقوم على المنهجية والدقة والتعامل مع الواقع اللغوى الحى (المنطوق)، أما المسائل التى هى فى علم الغيب وبخاصة تلك اللغات التى اندثرت ؛ فالكلام فيها من قبيل الظن فهو احتمالى وليس يقينيًّا.
لذلك عدل علم اللغة الحديث عن البحث فى نشأة اللغة إلى دراسة اللغة فى واقعها الحى المنطوق.
لكن مع ذلك استمرت المحاولات، وعاد الاهتمام – فى العصر الحاضر - بالتعرف على نشأة اللغة، وذلك فى ضوء اكتشافات الآثار والتقنيات الحديثة للتحليل، التى توحى إلينا ببعض الملامح عن موضوع نشأة اللغة.

البداية الجـادة للدرس اللغـوى:
أ- فى الغرب:
ظهرت فى الغرب مدرستان أساسيتان هما: اليونانية واللاتينية، وكان اليونانيون هم أصحاب السبق فى العمل اللغوى، كما ارتبط عملهم بالفلسفة، دون ارتباط بالواقع اللغوى الحى على ألسنة الناس عامة، وربما كان الدافع لـهم وراء ذلك هو الاتجاه الفلسفى لفكرة المثال أو الأنموذج، ومازال تأثير الفكر الفلسفى على الدرس اللغوى واضحًا فى أعمالهم أو فى ما نقل عنهم حتى الآن.
أما بشأن اللاتينيين فقد حذوا حذو اليونانيين بداية، ثم انصرفوا للغتهم وعدُّوها مثالاً يُحتذى، فحاولوا الوصول إلى معايير وقواعد عامة يمكن أن تطبـق على كل اللغات، فحاولوا وضع ما يسمى بالقواعد العالمية.
وانطلقت كل هذه الأفكار فى أنحاء أوربا، فكان لها الأثر الواضح فى الدرس اللغوى، ومازال بعضها جاريًا فى مدارس العلم هناك حتى الآن.
ب- فى الشـرق:
وإذا نظرنا إلى الشرق وجدنا مدرستين بارزتين، ارتبط فيهما الدرس اللغوى بالدين وكتبه المقدسة، وهما:
الهـنود: وارتبط الدرس اللغوى عندهم بكتابـهم المقدس.
والعرب: وارتبط الدرس اللغوى عندهم بالقرآن الكريم.
ولقد تفوق الهنود على اليونانيين واللاتينيين فى مجال الدراسة اللغوية، بفضل الدراسة الوصفية للغة السنسكريتية (لغة الدين والأدب عند الـهنود) واعتبر كتاب بانينى Panini (القرن الرابع ق. م): " القوانين الصوتية والنحوية للغة السنسكريتية " طفرة فى الدرس اللغوى، وبداية جادة لدراسة اللغة دراسة وصفية حتى اعتبره علماء اللغة المحدثون رائدًا للنحاة الوصفيين القدماء .
أما بشأن العرب؛ فمن الأمانة العلمية أن نلفت الانتباه إلى حقيقة هامة، وهى أن جهود العرب فى الدرس اللغوى ـ فى الفترة من القرن السابع حتى القرن العاشر الميلادى ـ تمثل فترة سخية فى نشأة علوم اللغة عند العرب، التى نشأت تحت تأثير دافعين واضحين همـا:
(1) خدمة الإسلام والمحافظة على القرآن الكريم من اللحن، وتيسير سبل فهمه وقراءته على غير العرب ممن دخلوا فى الإسلام من الأعاجم. ويذكر الإمام السيوطى أنه قد نشأ أكثر من خمسين نوعًا من علوم اللغة التى قامت لخدمة القرآن الكريم.
(2) خدمة اللغة العربية؛ للتغلب على الثنائية الموجودة فى الواقع اللغوى الحى على ألسنة العرب، المتمثل فى تياريـن:
أ ـ الفصـحى: وهى النموذج الذى يمثل اللغة العامة أو المشتركة، التى يمكن أن تتعامل بها كل القبائل فى إطار معايير محددة من القواعد الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية.
ب ـ اللهجات المختلفة: التى تختلف باختلاف البيئات والقبائل العربية، فنشطت همة العلماء العرب لجمع المادة اللغوية للغة العربية، عن طريق الرواية الشفوية، من أهل اللغة الأصليين ووضعوا حدودًا لعملية جمع المادة؛ فحددوا البيئة المكانية وكذلك الزمانية، وحددوا القبائل التى يصح الأخذ عنها.
ومع أواخر القرن الثامن عشر الميلادى وبدايات القرن التاسع عشر انتقلت الدراسات اللغوية إلى عهد جديد، وكان من أبرز هذه الجهود التى تمثل نقطة تحول فى الدرس اللغوى جهود اللغوى الألمانى جريم Jacob Grimm ( 1787- 1863م )، الذى نظر فى اللهجات معتمدًا على اللسان الحى المنطوق، بعد أن كان البحث اللغوى يعتمد على اللغة المكتوبة فى القديم، وكان المنهج فيها خليطًا من الأفكار: معيارى وتاريخى، ووصفى، دون تفريق بينها.

ثم سيطرت الدراسات اللغوية المقارنة على الفكر الأوربى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وظل البحث فى الدرس اللغوى على هذا النحو يعانى الخلط المنهجى، حتى جاء اللغوى السويسرى دى سوسير(ت 1913م)، الذى يعد فى نظر معظم اللغويين الرائد الأول لعلم اللغة الحديث، ولا يعنى هذا أنه المبدع لكل الأفكار اللغوية، فقد سبقه اللغويون الذين جاءوا قبله بأفكار لغوية، لكنها جاءت متناثرة فى بطون الكتب أو غير واضحة المنهج.
وقد ظهرت أفكار دى سوسير فى كتاب جمع مادته تلامذته، وتم نشـره فى عام 1916 تحت عنوان: " محاضرات فى علم اللغة العام" Cours de Linguistique generale "، وهو كتاب يتسم بالصعوبة والتعقيد، ويُلاحظ فيه تجاوزات غير قليلة فى استخدام المصطلحات؛ فهناك اضطراب فى استخدامها بالكتاب يصل إلى حد التضارب.
وتدور أفكار دى سوسير ومبادؤه اللغوية - فى عمومها - حول هدفين:
الأول: تصحيح بعض الآراء الزائفة التى كانت تشيع عند التقليديين من اللغويين.
الثانى: محاولة تخليص البحث اللغوى من تبعيته للعلوم الأخرى.

ويتلخص فكر دى سوسير فى أن اللغة حقيقة اجتماعية Social Fact تخضع للتحليل العلمى، على أنها نظام بنيوى تتحدد قيمة كل عنصر فيه بالإشارة إلى وظيفته، أى إلى علاقته بالعناصر الأخرى فى هذا النظام، بالإشارة إلى خواصه اللغوية فيزيائية كانت أو سيكولوجية، ولذلك يعود الفضل لكتاب دى سوسير فى إرساء أربعة أسس، هى:
1- التفريق بين المنهج الوصفى والتاريخى تفريقًا محددًا وواضحًا؛ فقد ميز بين البعدين الأساسيين للدراسة اللغوية:
البعد الأول: الدراسة التزامنية Synchronic.
البعد الثانى: هو الدراسة التاريخية Diachronic، التى تعالج فيها تاريخيًّا عوامل التغير التى تخضع لـها اللغات فى مسيرة الزمن.
2- التفريق بين اللغة Lingua والكلام Parole ، بوصف اللغة نظامًا مجردًا مختزنًا فى ذهن الجماعة اللغوية ، فى حين أن الكلام نشاط فردى تطبيقى للنظام اللغوى.
3- تحديد العلاقة بين الدالِّ والمدلول (فكرة الاعتباطية والعرفية فى اللغة).
4- التركيز على اللغة المعينة فى إطار النظرة البنائية (التركيبية).

=======================
◄ من كتاب: العربية وعلم اللغة الحديث 
--- الدكتور: محمد محمد داود ---
◄ {ص: 77-81}

=======================

0 التعليقات:

إرسال تعليق