آخر الأخبار

الاثنين، 29 يوليو 2019

النظرية التوزيعية: أسس و إنجازات

=======================
إعداد/ الأستاذة فوزية دندوقة
قسم الأدب العربي
جامعة محمد خيضر- بسكرة (الجزائر)
=======================

1- تمهيد:

- يطلق هذا الاسم على اتجاه لساني ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية في حوالي سنة 1930، وهو مرتبط بتفكير سوسير . وأوجه التماثل بين التوزيعية والاتجاهات الأوربية المعاصرة تسمح بوسمها على أنها جميعا من البدائل للبنيوية”[1].
التوزيعية هي النظرية التي تقابل عند كثير من الدارسين “البنيوية الأمريكية”، التي يعتبر سابير من أوائل روادها، وقد نشر كتابه عن (اللغة) عام 1921 بقدر عظيم من الحكمة والتوازن عندما يتحدث عن البنية اللغوية ، فيتفادى التبسيطات الشديدة، والنزعة العلمية السهلة التي سادت فيما بعد، ويصر في مقدمة كتابه على تأكيد (الطابع اللاشعوري والطبيعة اللامعقولة للبنية اللغوية)، مركزا على الجانب الإنساني للغة باعتبارها نظاما من الرموز، فوظيفة اللغة عنده ليست غريزية، ولكنها ثقافية مكتسبة، وبعد أن يدرس المشاكل الصوتية يتناول قضية الشكل اللغوي والبنية القاعدية، فيؤكد أن الحقيقة اللغوية الجوهرية تتمثل في التصنيف، والنمذجة الشكلية للتصورات فاللغة كبنية هي الجانب الداخلي، وأما الشكل فينبغي دراسته من وجهة نظر الوظيفة المنوطة به، ولا بد فيما يتصل بهذا الشكل من التمييز بين الصيغ التي تستخدمها لغة ما في عملياتها النحوية، وبين توزيع التصورات بالنسبة للتعبيرات المختلفة في نماذج “صوتية شكلية”[2].
وبالعنوان نفسه نشر بلومفيلد كتابه عن (اللغة) عام 1933، وعرض فيه للجانب الآخر من النظرية البنيوية المتماسكة، ويعتبر كل من (سابير) و(بلومفيلد) زعيمي المدرسة الأمريكية، وإن كان الثاني أكثر تأثيرا من صديقه، وأفضل تمثيلا لها، إذ تربى على يديه أجيال من الباحثين، حتى عد كتابه أهم دراسة منهجية للغة في القرن العشرين، ومازالت مبادئه هي السائدة بين جمهور الباحثين[3]. وتتحدد البنيوية الأمريكية في الحقيقة بعاملين: بهدفها العملي، وهو ضرورة دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافاتهم التي لم تبحث وتدون آنذاك، وبالبديهيات العلمية للسلوكية[4]، وسنوضح أثر هذه الأخيرة على التوزيعية، فيما هو آت.
2- صاحب النظرية التوزيعية[5]:
هاريس (زيلغ سابيتي هاريس /Zelling Sabbetai Harris 1909)
ولد (هاريس) سنة 1909م في روسيا، ثم قدم في الخامسة من عمره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التحق بجامعة (بنسلفانيا)، أين حصل على الدرجة الجامعية الأولى عام (1930)، وبعد سنتين من ذلك حصل على درجة الماجستير في الأدب، من الجامعة ذاتها (1932م)، وعام (1934) تحصل على درجة الدكتوراه بالأطروحة التي تقدم بها عن قواعد اللغة الفينيقية. ثم عين للتدريس في الجامعة ذاتها، إلى أن انتقل إلى جامعة (فيلادلفيا )، ثم عاد بعد ذلك إلى (بنسلفانيا) واشتغل بالتدريس هناك. أين التقى تلميذه تشومسكي.
أشهر مؤلفات هاريس في علم اللغة ذلك الذي يعد المؤلف الرئيس في علم اللغة التوزيعي، والذي شرح فيه آراءه حول هذا المنهج، وهو كتاب موسوم بـ (مناهج في اللسانيات البنوية)، وبه ظهر هاريس صاحب مدرسة جديدة، إذ خرج على أفكار(بلومفيلد) الذي كان مثله الأعلى في المنهج الوصفي.
سنة 1952 نشر هاريس مقاله (transformar grammar) الذي تحدث فيه عن استعمال الرموز لتحليل الجملة، كما تحدث عن الجملة التوليدية، وعن القواعد والقوانين اللازمة لتوليدها، ولعل هذا المقال هو البذرة الأولى التي انطلقت منها أعمال اللغوي تشومسكي في نظريته التوليدية التحويلية، حيث إنه طور آراءه اعتمادا على آراء أستاذه (في النحو التوليدي)، فطغت آراء التلميذ ونسبت النظرية التوليدية التحويلية لتشومسكي في النهاية، ولم يكن هاريس لينشر هذا المقال – كما يعتقد بعض الدارسين- لولا إحساسه أن منهجه الجديد (التوزيعي) الذي أخذ يدعو له لا يصلح لحل كثير من قضايا اللغة لكنه لم يصرح بذلك، بل حاول تعديل فكرته من خلال طرح فكرته الجديدة التي تأثر بها تشومسكي.
يرى هاريس أن المعنى ليس عنصرا رئيسا في تقسيم الجمل، وتوزيع مفرداتها، متأثرا في ذلك بآراء بلومفيلد الذي يرى أن المعنى هدف بعيد المنال، وعلى الباحث –حتى لا يدخل في متاهات تبعده عن لب الدراسة- أن ينصرف عنه إلى ما هو أهم، وعلى الرغم من هذا التوجه إلاَّ انه وجد نفسه عند التطبيق يتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المعنى الماثل في ذهن المتكلم ، والمورفيمات المستعملة والتركيب الجملي الذي تنتظم فيه هذه المورفيمات انتظاما توزيعيا.
3- المقدمات النظرية للتوزيعية:
ليس من العسير أبَّدا أن نكتشف أن مقدمات العمل النظرية للتوزيعية قائمة بشكل أساسي على مبادئ سوسير، فهي تشبه إلى حد كبير ما صاغه هذا العلامة من مقدمات.
- موضوع الدرس هو اللغة مقابلة بالحديث، وغالبا ما يطلق على اللغة لفظ القانون؛ أي أنها النظام الذي يحكم عملية الاستعمال الفردي (الكلام)، وهي تسمية لها صدى عملي ملموس، وقد كان سوسير قبل أصحاب المنهج التوزيعي قد أكد على أن موضوع اللسانيات (الدرس اللساني) بمختلف مناهجه هو اللغة.
- الآنية: يتسم هذا الدرس بالآنية، لأنهم بإزاء لغات منعدمة الكتابة، و ماضيها مجهول[6]، فالتوزيعيون انطلقوا في بداية الأمر من دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافتهم التي لم تبحث أو تدون آنذاك[7] – كما سلفت الإشارة - وليست الآنية إلا المنهج الوصفي الذي اشتهر به دي سوسير، حيث إنه نادى إلى دراسة اللغة دراسة آنية لأنها كفيلة بإعطاء نتائج مضمونة، وعندما يفرغ الباحث منها له أن ينتقل إلى الدراسة التاريخية التي تتم وفق امتداد زمني طويل، قد يحول بين الدارس وبين تحقيق مراميه بشكل أفضل.
- ” تتألف اللغة من وحدات متفاصلة تفرزها عملية التقطيع ، ويقدم سوسير في هذا المجال رؤية شاملة حول العلامة اللسانية ، وطبيعتها وعلة وجودها، ولكن لا وجه للمقارنة مع ما للتوزيعيين، فلا محل عندهم للبحث النظري، وإنما لمعالجة شديدة الضبط للقضايا التي يوفرها الوصف (ولا يذكرها سوسير) ؛أي كيف نبرز الكلم المميز (المورفيمات)، وهي تقابل عندهم العلامات، و ما هي المقاييس عند ظهور بعض الشك… إلخ” ،ويمكن أن نلاحظ اطراد المقابلة بين الدال والمدلول، واعتبار المورفيم كوحدة دنيا تفيد دلالة يفردها التحليل، لكن جميع ما يتعلق بالمعنى في شتى أشكاله يحذو فيه حذوا ثابتا، وترجع المناقشات حول المورفيمات عادة إلى قضايا تخص الشكل، فالمعنى في حد ذاته لا يدرك موضعه، ولا نحصل إلا على معاينة أوجه التماثل، و أوجه التباين الدلالية.
ارتكز التوزيعيون بشكل واضح على مبادئ دي سوسير، وإن بدا لنا بعض الاختلاف بينهم وبينه، فليس إلا صبغة خاصة أرادها التوزيعيون، لأنفسهم ليتميزوا عن باقي المدارس اللسانية الأخرى.
- تؤلف كل لغة نظاما مخصوصا، وهو ما يقابل الاعتباطية عند سوسير، فموضع الكلمة في البنية محدد بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى، ومن هذه العلاقات تنشأ قيمة كل كلمة[8].
-إن العناصر تتحدد بعلاقاتها داخل النظام، أي بعلاقاتها مع غيرها من العناصر اللغوية في التركيب الواحد، وهو ما يسميه سوسير بالعلاقات الركنية أو السياقية التي تجمع بين كلمات جملة واحدة، حيث تستدعي كل منها الأخرى، لتشكل سياق لغويا ذا دلالة، ولعلنا هنا واقفون على أهم مبادئ النظرية التوزيعية، حيث إنها ترى أن عملية التوزيع السليم الذي تأخذ فيه الكلمة قيمتها وبالتالي علاقات منطقية ولغوية مع بعضها البعض هي التي تصل بنا في النهاية إلى المعنى السليم، ومن هنا جاء اسم النظرية التوزيعية[9]، ولتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي.
تتوزع الجمل في العربية وفق أحد النظامين (في الغالب الأعم)[10]:
الجمل الاسمية: التي يتصدرها اسم (مسند إليه + مسند)
الجمل الفعلية: التي يتصدرها فعل (مسند + مسند إليه)
وقد يخالف مستعمل اللغة أحد التركيبين إلى تركيب جديد بالزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير… دون أن يخالف نظام اللغة، فيوزع مفرداته توزيعا سليما، وفق قانون لغوي يخضع له للتعبير عن تجربة معينة، أو فكرة ما، لكننا قد نكون بإزاء متكلم جاهل بقواعد اللغة، فيوزع ما في ذهنه من مفردات توزيعا مختلا، به يختل المعنى، كأن يقول: نضع الصحن في الطعام، وهو يريد: نضع الطعام في الصحن، فيربط بين الوحدة اللغوية التي تريد فعلا وبين التي تأتي رابطا (حرف الجر)، عوض أن يربط هذه الأخيرة بكلمة (الصحن) ليدل على المكان (الموضع) الذي يوضع فيه الطعام .
4- أثر علم النفس السلوكي على التوزيعيه:
ألف بلومفيلد سنة 1914 كتابا يحمل عنوان (اللغة) ويبدو واضحا أنه في كتابه هذا متشبع بمبادئ السلوكية[11]، و هذا ما جعله يعلن صراحة عن التزامه بهذا المذهب بعده إطارا نموذجيا لوصف اللغة، فقد ذهب إلى أن اللسانيات شعبة من شعب علم السلوكي، متأثرا في ذلك بـ (واطسون/Watson) مؤسس المذهب السلوكي في علم النفس، ولعل هذه القضية من أهم النقاط التي تقوم عليها نظرية بلومفيلد السلوكية، حيث اعتبر اللغة نتاجا آليا واستجابة كلامية لحافز سلوكي ظاهر، وعلى هذا الأساس حاول تفسير الحدث الكلامي من منظور سلوكي بحت.
أطلق بلومفيلد على المنهج الذي اتبعه في دراسة اللغة اسم المنهج المادي أو الآلي، وهو منهج يفسر السلوك البشري في حدود المثير والاستجابة على غرار ما تقوم به العلوم الفيزيائية والكمياوية في اعتمادها في تفسير الظواهر على تتابعات العلة والأثر[12]، وقد استعان في شرح منهجه هذا بقصته المشهورة عن (جاك) و(جيل).
افترض بلومفيد أن جاك وجيل كانا يتنزهان في الحديقة بين صفوف الأشجار، شعرت(جيل) بالجوع، وتولدت لديها رغبة في الأكل، رأت تفاحة على الشجرة، فأصدرت أصواتا عبرت من خلالها عن هذا الجوع، فقفز (جاك) على إثر هذه الأصوات، ليتسلق الشجرة، ويقطف التفاحة، ليقدمها إلى(جيل) التي اشتكت من الجوع أو عبرت عنه، و بعد ذلك يضع التفاحة في يدها، وتأكلها هانئة البال. إن في هذه القصة مجموعة من الجوانب التي تثير اهتمام الدارسين، إذ يهتم الباحث اللغوي هنا بالحدث الكلامي، والتصرف السلوكي الذي ترتب عليه، لأن اللغة في نظره سلسلة من الاستجابات الكلامية لحوافز ليست ميدان الباحث اللغوي، فهو لا يهتم بالعمليات النفسية (الحافز الداخلي) السابقة على عملية الكلام، وإصدار الإشارات الصوتية، بل بدراسة التصرف الكلامي، فيصف ما فيه من فونيمات ومورفيمات توزع في إطار جملي[13].
و قد قام بلومفيد بتحليل هذه القصة كمايلي:
1-أحداث عملية سابقة الحدث الكلامي.
2-الحدث الكلامي.
3-أحداث عملية تابعة للحدث الكلامي.
والشكل الآتي يوضح هذا التحليل:
>R ……………>s……………r >…………S
- الخط المتقطع يمثل الحدث الكلامي الذي يملأ الفراغ بين جسمي المتكلم والسامع
- المثير S: يعادل الأحداث العملية السابقة للحدث الكلامي (إحساس جيل بالجوع، ثم رؤيتها التفاحة).
- الاستجابة R: تعادل الأحداث العملية التابعة للحدث الكلامي (قفز جاك لتسلق الشجرة، وقطف التفاحة لتقديمها إلى جيل).
- الحرفr: يدل على الاستجابة البديلة ( إصدار جيل أصواتا دالة على الجوع، بدل قطفها التفاحة)
- الحرفs: يدل على المثير البديل (أصوات جيل التي تجعل جاك يتصرف كما لو أنه هو الجائع)[14].
إن أثر السلوكية على الدراسات اللغوية واضح جدا، حيث إن اللغة ترتبط ارتباط وثيقا بسلوك الإنسان وبنفسيته، فتراه يستعملها حسب هذه الحالة ،والمواقف التي يخضع لها، أما أثرها على المنهج التوزيعي فيتجلى في رأي سابير الذي يرى أن الفونيم مميزا يعتمد على الافتراضات السيكولوجية[15]. ثم إن التوزيع مبدأ تخضع له الجمل كما تخضع له الأصوات، وهو مرتبط أيضا بالحالات النفسية للأشخاص المتكلمين، فيتأثر بها وبسلوكياتهم، وهو ما جعل مستعمل اللغة يقدم ويؤخر، ويحذف ويزيد… فليست اللغة إلا ظاهرة سلوكية من الظواهر القابلة للملاحظة والمقياس[16].
5- خصائص توزيعية للمورفيمات بالنظر إلى المفردات[17]:
أ- النويات: مورفيمات مكافئة للمفردات.
النواة هي الأصل في جميع الكلمات (المفردات)، وهي الجذر اللغوي الذي يتجرد من كل الزوائد، ولا يمكننا حذف أحد أصواته مهما كان الأمر؛ لأن ذلك يؤدي إلى بتر هذا الجذر، وجعله ناقصا دون فائدة، مثل: قلم، دحرج، كتب، سار، نما، سعى، أبى …
ب- اللواصق: مورفيمات غير مكافئة للمفردات
فليست أصلا في النواة (الكلمة الجذر)، بل تتم زيادتها من أجل زيادة في المعنى لم تكن قبل هذه اللواصق، و لواصق العربية مجموعة في قولنا سألتمونيها أو أهوى تلمسان، وهي أنواع:
-السوابق: لواصق واقعة في المفردات قبل النويات.
يسبق هذا النوع من اللواصق النواةَ (كلمة الجذر)، ويوصل بها و كأنه جزء منها، لأداء وظائف نحوية ودلالية مختلفة، ومثال ذلك زيادة الياء في أول الفعل (دحرج) ليصير (يدحرج) فهذا الزائد في العربية إنما يأتي للدلالة على زمن المضارع، إذا تنتقل صيغة (فعلل) الدالة على الماضي العائدة على ضمير الغائب (هو) إلى المضارع بفضل هذا اللاصق (السابقة).
-الحشو: لواصق واقعة في المفردات بين النويات.
يتوسط هذا النوع من اللواصق الكلمة النواة(المفردة)، فتتغير صيغتها الصرفية، ليتغير معناها، فالفعل (خزن)كلمة نواة، خلت من أي زيادة، ودلت على عملية الخزن، لكنها تدل على مكان الخزن وواسطته عند إضافة لواصق تتعدد مواضعها، فتتعدد بذلك المفردات المولدة، مثل:
خزَّان خ+ز+(ز)+(ا)+ن
خزانة خ+ ز+(ا) +ن+(ة)
مخزَّن (م)+خ+ز+(ز)+ن
خزينة خ+ز+(ي)+ن+(ن)
- اللواحق: لواصق واقعة في المفردات بعد النويات
وهي المورفيمات التي تتلو المفردة، للدلالة على معاني جديدة، كالجمع والتثنية أو التأنيث، أو النسبة… مثل:
جزائر + ضمير المتكلم للجماعة جزائرنا (نسبة إلى جماعة المتكلمين)
جزائر +ياء النسبة جزائري (جزائريان وجزائريون جزائرية)
6- بنية النظام:
يمكن وصف نظام ما من خلال عرض بنيته؛ لأنها توضح عناصره (أو أقسام عناصره) وعلاقات تنظيمها، وردودها بعضها مع البعض الآخر، إذ تنتظم العناصر اللغوية –عادة- في النص وفق ترتيب أفقي يبين العلاقات النحوية، ويوضحها بوصفها أهم علاقة جملية (لغوية).
أمَََّا العلاقات الثانية والتي تكتسي جانبا وقدرا كبيرا من الأهمية أيضا فهي العلاقات الجدولية أو الصرفية (العلاقات الاستبدالية)، وهي التي تمكننا من استبدال العناصر اللغوية في السياقات ذاتها، لأسباب دلالية مختلفة، إذ يبحث المتكلم عن العناصر التي يمكن أن يجعلها بدلا عن عناصر أخرى، وليس هذا الاستبدال إلا إمكانية اختيارية تتعلق بالنظام، ويمكننا استنادا إلى التركيب الذي سبق أن نضع أو نستحضر جملة من العناصر اللغوية التي نستطيع استبدالها بما هو موجود[18].
إنَّ مستعمل اللغة يعود دائما في تركيب جمله إلى هذه العلاقات، ويراعيها، ولو بغير إرادته لأن مخالفتها تؤدي إلى خلل في التوزيع، وذلك بسبب القاعدة اللغوية.
يتوسل التحليل التوزيعي للجملة إحدى الطرق الثلاث:
بالأقواس
((يا) (فرنسا)) ((قد) (مضى)) ((وقت) (العتاب))
بالمشجرَّّ
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
مركب اسمي مركب فعلي
أداة نداء منادى مركب فعلي مركب اسمي (إضافي)
أداة توكيد فاعل مضاف م إ
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
بالجدول (علبة هوكيت) يا فرنسا قد مضى وقت الـ عتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
يــا فرنسا قد مضى وقت العتاب
7- خلاصة:
يستند المنهج التوزيعي على اختلاف مدارسه إلى اعتبار اللغة مجموعة من الوحدات التمييزية التي تظهرها عملية التقطيع أو التقسيم، و يعتمد هذا المنهج طريقة شكلية في الوصول إلى المكونات المباشرة (المركبات الأساسية ) والنهائية (الوحدات الصرفية أو المورفيمات). و الغاية من التحليل التوزيعي هي إظهار البناء المتدرج للعبارة[19] .

الهوامش:

[1] - كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة، ترجمة منصف عاشور، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1984 ، ص 38
- صلاح فضل، نظرية البنائية، ص 96، 97، ينظر: خليل عمايرة، في نحو اللغة وتراكيبها، ص 42[2]
- م ن / ص97 [3]
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 78[4]
- أحمد خليل عمايرة، في اللغة وتراكيبها، ص 48 وما بعدها [5]
- كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة ، ص 38 [6]
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 78. [7]
- كاترين فوك، بيارلي قوفيك، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة، ص 39 [8]
- م ن / ص ن[9]
[10] - لن تراعى هنا التراكيب الخارجة عن هذا التقسيم؛ لأنها كما رأى علماء نحو العربية تعود في الأصل إلى أحدهما، وهذا ما جعلهم يجتهدون في إيجاد تخريج لكل صيغة خالفت التركيب الإسنادي الإسمي أو الفعلي، وهو الأمر بالنسبة لجملة النداء أو الصيغ الندائية التي نفتتحها بحرف (لابفعل، ولا باسم)، فكان من النحاة من قال إن أصل الجملة الندائية (يا أحمد) هو: أدعوا أحمد (الياء) هنا نائب عن الفعل الذي حذف وجوبا، لأن ذكره يخرج الجملة من أسلوب الإنشاء (الدعوة والنداء) إلى أسلوب الإخبار والإقرار.
[11]- يعد سابير أيضا من الذين دعوا إلى ضرورة عدم الفصل بين الدراسة اللغوية وباقي مظاهر السلوك وعلم النفس وعلم الاجتماع البشري، لما لهذه الأخيرة من دور بارز في استعمالات اللغة.
- أحمد مومن، اللسانيات النشأة و التطور، ص195[12]
- خليل أحمد عمايرة، في النحو اللغة وتراكيبها، ص 47. [13]
- أحمد مومن، اللسانيات النشأة والتطور، ص 196. [14]
- خليل أحمد عمايرة، في نحو اللغة وتراكيبها، ص64، 47.[15]
[16]- مهدي أسعد عرار، جدل اللفظ و المعنى، دراسة في دلالة الكلمة العربية، دار وائل، عمان، ط1، 2002 ص 35.
- كارل ديتر بونتنج، المدخل إلى علم اللغة، ص 114 [17]
- م ن / ص42 [18]
[19] - أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص249 ، 250
============


كتاب: السيميائية وفلسفة اللغة


◄ كتاب: السيميائية وفلسفة اللغة.

 أمبرتو إيكو


ترجمة: أحمد الصمعي.


◄( يمكنكم تحميل الكتاب  مباشرة على الرابط التالي: 


تطور الذكاء الاصطناعي بين الرمزي والعرفاني والعصبي

مقدمة:
" الذكاء الاصطناعي (IA) هو مجال علوم الكمبيوتر، وهو مجموعة من التخصصات التي تركز على التفكير وتقليد القدرات البشرية."{1}
إذا كان حرص الإنسان على إيجاد آلات ذكية تساعده في القيام بوظائفه المعرفية يعود إلى الزمن القديم فإن الاختصاص المعرفي الذي اختص في هذا المجال واقتلع مكانه من بين التطبيقات الدقيقة هو معاصر. يشهد الذكاء الاصطناعي في المرحلة الراهنة تطورا اقتصاديا هاما ضمن إطار الإعلامية المتقدمة وقد تم ترجمة هذا التقدم عبر المشاريع الكبرى في البحث الوطني والدولي في الدولة المتحكمة في سيادة العالم وعن طريق التطبيقات التي عرفت نجاحات كبيرة في المجال الصناعي وداخل قطاع الخدمات والإدارة. لقد اعتمد المنظرون للذكاء الاصطناعي على مقاربات متنوعة وتعريفات مختلفة تبعا لتنوع واختلاف التقاليد والإحالات التي اعتمدوها ورجعوا إلى الجذور والينابيع الأسطورية والدينية عند الإغريق والشرق واخذوا من التراث والتاريخ ما يدل على قدرة الكائن البشري على خلق كائنات اصطناعية ذكية شبيهة به.
الإشكالية في عبارة الذكاء الاصطناعي لا تثار من جهة الاصطناعي فهذا المضاف على غاية من البداهة وإنما من جهة الذكاء فهذا الأمر مطلب عزيز وقيمة ثابتة يبحث عنها الكل وتتداخل فيه العديد من العوامل. لقد غمر تأثير الذكاء الاصطناعي العديد من المجالات الحيوية وغطى الكثير من القطاعات الحساسة من الاقتصاد وخاصة الصناعة والبنوك والمالية والنقل والمؤسسة العسكرية والفضاءات التجارية والتسويق. لكن ما المقصود بالذكاء الاصطناعي؟ وماهي عوامل تطوره؟ وكيف تحرك مفهومه حول أنساق معرفية؟ وهل الذكاء معطى طبيعي أم هو مهارة مكتسبة؟ وماهو الفرق بين الذكاء العاطفي والذكاء الاصطناعي؟ ولماذا أدت هذه التحولات إلى ميلاد العلوم العصبية ؟ وماذا حصل تحديدا داخل قطاع الفلسفة البيولوجية؟ وماهي انعكاسات هذه الثورة المعرفية الدقيقة على التصورات الايكولوجية في الحياة والبيئة والمحيط؟
قد يكون الرهان الحقيقي الذي يمكن رصده لهذا المبحث هو محاولة ردم الفجوة الرقمية والدخول إلى العصر الافتراضي من زاوية الذكاء الاصطناعي والمنعطف العرفاني{2} والنظرية العصبية{3} ولكن الأهم من كل ذلك تحفيز العقل الفلسفي بغية توجيهه نحو المجالات التطبيقية والاستفادة من التحولات التي تعصف بعالم المعرفة بغية صناعة الذكاء والارتفاع في سلم التقنية والتعويل على الهندسة والبرمجيات في التخطيط للمستقبل واستشراف الآتي من خلال اللحاق بالركب الحضاري واستيعاب المنجز المعرفي.
1-مصطلح الذكاء الاصطناعي:
" لفترة طويلة ، كان لدى الذكاء الاصطناعي تقاطع واسع مع التعلم الآلي ، وهو نهج يستخلص المعرفة من البيانات. لقد أحدثت التطورات المذهلة في الشبكات العصبية العميقة ، وخاصة في مجال الإدراك الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة ، لكن مجال الذكاء الاصطناعي آخذ في التقلص."{4}
أحاط الكثير من الغموض والالتباس الحقل الدلالي والسياق المفهومي الذي ظهر فيه الذكاء الاصطناعي سنة 1956 وبقي إلى حد الآن محال سجال وقضية خلافية بين المؤرخين ومعظم المتابعين للثورة الرقمية. من جهة أخرى يتعلق الذكاء الاصطناعي بالكيفية التي تنقاد بها الآلات عن طريق خيرة الأدمغة البشرية والحواسيب والأدمغة الالكترونية من حيث هي منظومات رمزية ذات بنية معقدة تؤدي مهمات جديدة{5}. بطبيعة الحال يتضمن الذكاء الاصطناعيIA القدرات المكتسبة التي يحصل عليها الذكاء البشري بشكل عادي على غرار الحصول على المعرفة والتعلم والإدراك والرؤية والسمع والتفكير والاستدلال واتخاذ القرار ويزيد قدرات جديدة دقيقة وأكثر تنظيم ومرتبطة بالماضي أو بالمستقبل في التوقع والاستشراف.
يرتكز عمل الذكاء الاصطناعي على إعادة الإنتاج بواسطة برنامج يتم تخزينه في الحاسوب ويتضمن جملة من التصرفات الذكية دون تدخل الكائن البشري ودون الاكتفاء باستنساخ الوظيفة الأصلية للدماغ. بهذا المعنى يمثل الذكاء الاصطناعي فرعا متقدما من علوم الإعلامية وتقنيات التحكم والتوجيه والتي تندرج ضمن السبيرنيطيقا وتستعمل مجموعة من الآليات الدقيقة من أجل تحقيق عدة مكاسب متطورة{6} .
بيد أن هذا الاقتران بين الذكاء الاصطناعي والإعلامية لا يمنع ما يتميز به من طابع عابر للاختصاصات والمناهج واحتلاله موقع الملتقى ومكان الذي تتقابل فيه جملة من العلوم والتقنيات والأنشطة وتتقاطع فيه. يمكن ربط تاريخ ظهور الذكاء الاصطناعي بمختلف المحاولات التي بذلها العلماء لكي يخترعوا آلات ذكية ضمن المؤسسات والشركات الحاضنة لهم ولقد ارتبطت بالمقاربة السيبرنيطيقية منذ 1956 حيث عمد مجموعة من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية من مختلف الاختصاصات والمشارب على غرار الرياضيات والمنطق والإعلامية وعلم الاجتماع وعلم النفس على بلورة مشروع بحثي مشترك أطلقوا عليه اسم الذكاء الاصطناعي ويجمع بين البرهنة الرياضية على المبرهنات والترجمة والألعاب. بعد ذلك عرفت الفترة الممتدة بين 1956 و1960 وضع برامج علمية وتقنية حول إيجاد حلول عامة للمشاكل أو ما يعرفGPS من طرف سيمون ونويل وتركزت الأعمال حول برامج الترجمة الآلية.
بشكل مواز طور ماكارثي سنة 1959 اللغات الأساسية للبرمجة الخاصة بالذكاء الاصطناعي وكان قد سبقه بعام في البحوث برسبتون روزانبلات بابتكار آلة تحاول محاكاة الوظائف التي يقوم بها الدماغ. أما الفترة التي امتدت بين 1960 و1965 فقد تميزت بهيكلة البحوث حول المواضيع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وتركيز كبير على لعبة الإخفاقات وفق المقاربة الرياضية المنطقية التي تبحث عن ترجمة النشاط البشري من خلال نماذج مجردة وتستعمل برامج ألعاب ووفق الاستبطان والملاحظة الداخلية. شهد النصف الثاني من العقد السادس من القرن الماضي أي 1965 إلى 1970 مراجعات وانتقادات بعد قدم بار-هليل تقريرا حول إخفاق الترجمة الآلية وبعد طبع كتاب مينسكي وبابرت الذي تسبب في إخماد البحوث حول الآلات المنظمة في شبكات وعاد الحديث عن مسألة تمثل المعرفة وطرق استثمار المنطق.
لقد انصبت أعمال نعوم شومسكي حول مسألة فهم الكلام في نفس الاتجاه وتم تنظيم مؤتمر عالمي حول المسألة بحثا عن شرعية المؤسسة الجامعية 69 وصدر العدد الأول من صحيفة الذكاء الاصطناعي1970. على إثر ذلك تميزت الفترة بين 1970 و1978 بالثراء في البحوث والاتساع في المواضيع والمشاركين وانصبت حول فهم الكلام الطبيعي قام بها شردرال وسام وبام وحول أنساق الخبرة مع دندرال وميسين. لقد بدأ الإنسان يعول على الحاسوب لكي يقوم بأفعال ذكية عندما يريد أن يصف عالم مغلق أو عالم صغير وأصبح يوظف المباحث حول تمثل المعرفة في وصف المواضيع التي يتكون منها العالم والعلاقات بينها. بعد ذلك تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال سنوات 1978 إلى 1984 بشكل مذهل وسريع وتعددت أنساق التمثل والخوارزميات وتمكنت من إيجاد حلول للمشاكل المثارة وظهر الذكاء الاصطناعي الرمزي. بعد سنة 1984 لم تعد التجديدات التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي حاضرة بقوة على الصعيد الإعلامي وبدأ التوجه نحو الاستخدام الصناعي للمنفعة الاجتماعية وتوجه الباحثون نحو العمل الأكثر فائدة تقنية. يمكن أن نذكر بعض الأسماء التي ساهمت في قيام الذكاء الاصطناعي على غرار جان بول سانسونات وبول بريتون وتميز بين خمس مراحل في تطور هذا الاختصاص: العقد الخامس من القرن الماضي عرف تفاؤل كبير ناتج عن التغلب على الكثير من المشاكل وإيجاد حلول للصعوبات وظهور الترجمة الآلية والبرهنة على النظريات والاعتراف بالأقوال وصنع ألعاب الإخفاقات.
العقد السادس الذي جاء بعده من نفس القرن شهد انطلاقة سريعة للاختصاص من خلال إطلاق عدد هام من المشاريع والحصول على نتائج معتبرة من اعتماد البحث الاستكشافي والنسق العام لمعالجة المشاكل. العقد السابع يناسب انفجار الأعمال التي سمحت بتركيز أسس الذكاء الاصطناعي في مجال تمثل المعارف وامتلاك مهارات التفكير والاستدلال وفهم الكلام الطبيعي وأنظمة الخبراء وصنع الإنسان الآلي المتطور. العقد الثامن يمثل الدخول الرسمي للذكاء الاصطناعي للحياة الاقتصادية من خلال انجازات تطبيقية لافتة في ميادين محددة وتحقيق معدلات تنمية مشجعة وتزايد المجهود البحثي عن طريق المشاريع الصناعية. العقد التاسع يعرف إدماج أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن الأنظمة الإعلامية الموجودة وانتشارها بشكل عمومي وإحراز تقدم في عدد من المجالات الأساسية التي ترتبط بالمستقبل وخاصة نظم التعلم والتفكير{7} .
من هذا المنطلق تتكون الأنساق التي يشتغل وفقها الذكاء الاصطناعي من المصطلحات المفاتيح التالية:
- معالجة المعلومات الرمزية مثل الأرقام والمفاهيم والوقائع والمعطيات والقواعد والمواضيع.
- استعمال المناهج الاستكشافية بغية الاقتصاد في الوقت المخصص للحساب وحل المشاكل بسرعة.
- الأخذ بالاعتبار نقص المعطيات حول الوضعيات وعدم مطابقة المعلومات لها والتنازع عليها.
- الدور المركزي للمعرفة في اكتشاف الميكانيزمات وتصور الأنساق القادرة على حل المشاكل.
- الطابع المتعدد للمناهج وعابر للاختصاصات للذكاء الاصطناعي يظهر في الحاجة إلى جلب تقنيات متطورة في الإعلامية والبرمجيات بغية تجويد لغة التي تشتغل وفقها الحواسيب والآلات.لكن الذكاء الاصطناعي يستمد قوته من مصادر أخرى على غرار المنطق والعلوم العرفانية واللسانيات والعلوم العصبية والبيولوجيا والفلسفة . فماهي الميادين والحقول التي يغطيها الذكاء الاصطناعي؟
يقوم الذكاء الاصطناعي بالبرهنة الآلية على النظريات ويعالج الكلام الطبيعي المكتوب ويعالج أيضا القول الشفوي بشكل آلي وفوري ويؤول الصور ويسمح بالرؤية بواسطة الحاسوب ويصنع الإنسان الآلي الذي يسعى لتعويض الإنسان العادي في كل شيء ويقوم بكل الوظائف بدلا عنه مثل الألعاب وأنظمة الخبرة{8} .
يبدو أن المقاربة التي يعتمدها الذكاء الاصطناعي هي مرتكزة بالأساس على استعمال المعرفة عن طريق الاستنتاج وتمثل المعلومات ويتدعى ذلك نحو ولوج ماوراء المعرفة عبر توظيف الشبكات الدلالية في الاستشراف والتوقع ووضع الخطط الممكنة وتقديم البدائل الافتراضية وتخيل الفرضيات المستقبلية للواقع. كما يساهم الذكاء الاصطناعي في بناء أنساق متكيفة تجمع بين النماذج الرمزية والنماذج التواصلية تهدف للمحافظة على الذاكرة الترابطية وكونية الذاكرة ثلاثية الأبعاد وتطوير آلات اتصال أكثر قربا وسرعة وإيجاد توثيق دقيق وذكي للمعلومات والبرامج المخزنة بواسطة إستراتيجية الخيارات الأكثر معلوماتية والأقل كلفة والأكثر جاهزية على تقديم الإضافة وإيجاد الحلول للمحركات المعطلة والمتوقفة عن التدفق.لكن كيف يتم استعمال الذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات الواردة ومعرفة الأشكال ومعالجة الصور؟
2- الذكاء الاصطناعي بين المعرفة الراهنة والمستقبل المنظور:
• ماذا يجب أن نقول إلى آلة لكي تمارس التفكير؟ وكيف تتمكن هذه الآلة الذكية من التطور وتراجع أخطاء الماضي وتتأقلم مع المحيط دون أن نحكي لها عن العالم وعجائبه وأسراره ودون أن نشحنها بالمعلومات؟
إن حل معضلة بواسطة إنسان عادي أو إنسان آلي يتطلب توفر عدد كبير من المعلومات وقدرة فعلية على الاستدلال والتفكير والربط والتحليل والمقارنة والتركيب وتتكون المعرفة من مجموعة من الإجراءات وهي المواضيع التي تشكل العالم الواقعي وتتمثل في الوقائع والأحداث والكيانات و الأشياء والعناصر والعلاقات والمجموعات والتصورات الأكثر عمومية واستراتيجيات العلم الصانع وإجراءات الاستدلال. يصل الذكاء الاصطناعي بالمعرفة إلى مابعدها ويمنح الثقة إلى الرؤية إلى درجة التيقن من الاستدلال ويتحول إلى معرفة بالمعرفة ويتمكن من التمييز باقتدار بين المعرفة وآليات استثمارها على أحسن وجه. كما يتفحص الصور ويشتغل عل فهمها ويضع الأشكال ضمن مقولات ويرتب المعطيات بطريقة ستاتيكية ثابتة وبصورة تركيبية متحركة ويعرف أسس المعرفة ويكشف عن الإشارات التي تساعد على التواصل. تعود مشكلة تمثل المعرفة إلى التسجيل التوثيقي الذي تتم به عن طريق الأشكال الرمزية واستثمارها داخل نسق من الاستدلال وتجمع بين بنية المعطيات التي تمثلها المعلومات والطريقة المعتمدة التي تستثمر بها {9} . بعد ذلك تسمح آلية الاستدلال المتبعة باكتشاف معلومات ومعارف جديدة بصورة ديناميكية حول المشكل المطروح للمعالجة وترتكز على التمثلات المنطقية وقواعد الإنتاج والشبكات الدلالية والمواضيع المهيكلة. هكذا يتحرك الذكاء الاصطناعي بين المشاكل المثارة وتمثلات المعرفة والاستدلالات الفكرية والنماذج النسقية والمعالجات التطبيقية لإيجاد حلول للقضايا والقيام باكتشافات جديدة وتمكين الإنسان من التحكم. بلا شك أن الذكاء الاصطناعي يمارس تأثيرا كبيرا على تصور المجتمعات للأنظمة المعلوماتية التي تستعملها وأنه يتحكم في حقول البحث والتطوير في المستقبل ومجالات الاستشراف والاستراتيجيات ويساعد على تجديد التعلم الرمزي وتجويد الأنظمة الذكية وتوسيع التحليل ليشمل المعطيات المعقدة {10} .
ولا يقتصر الذكاء الاصطناعي على حل المشاكل بواسطة الدماغ البشري والحاسوب الآلي بل يوفر نماذج جديدة للاستدلال تأخذ بعين الاعتبار التمشي البشري في الإدراك والاستيعاب والتفاعل وتضم الافتراض والتناسب من جهة الزمن والكيفية والمعماريات المتكيفة مع الواقع ومجتمع المعرفة والترابطات العصبية. بعد ذلك مر الذكاء الاصطناعي إلى السرعة القصوى وشهد حدوث عدة ثورات واجتاز مختلف المراحل وصار اختصاصا جامعيا هاما مثل بقية الاختصاصات ودخل إلى حقل التطبيقات الصناعية والتكنولوجية.
إذا كان الذكاء الطبيعي يخص الإنسان ويتميز بالموهبة والنور الفطري فإن الذكاء الاصطناعي ينتمي إلى الحاسوب الآلي ويمثل مشروعا علميا مدهشا ويحمل مجموعة من المصنوعات والتحف والقطع الذكية . يبقى الغرض من الذكاء الاصطناعي يكمن في اتجاه الجماعة العلمية نحو بناء نماذج إعلامية تسمح بإعادة إنتاج التصرفات الذكية من خلال التقليد والمحاكاة بواسطة إعادة استخدام الآلات في الوظائف الكبيرة مثل عمليات الفهم والاستدلال والتعرف والتعلم والاختبار والتصرف بطريقة منظمة وحذرة في السياق المحدد. يتطابق تعريف الذكاء الاصطناعي مع النظر إلى الاختصاص الأول في الوقت الراهن والذي يشتغل عليه مجموعة من العلماء والمهندسين والخبراء والباحثين في مجموعات علمية وفرق بحثية متنوعة ومتداخلة. ينقسم الذكاء الاصطناعي إلى اتجاهين:
◇ الاتجاه الأول: يرى بأن الذكاء الاصطناعي الرمزي يعتبر نفسه الاختصاص المركزي الذي تتحرك حوله جملة من الاختصاصات الأخرى على غرار الألسنية وعلم النفس ويهتم بالوظائف العرفانية العالية وبحث عن قوانين عامة تسمح بوصف وإعادة وصف العالم ويقر بأن البلورة الإعلامية تعيد إنتاج التصرف الموصوف بالذكاء بصورة تكاد تكون وفية ومطابقة وتحوز بهذا التفسير على صلاحية نفسية وعرفانية متينة.
◇ الاتجاه الثاني: يمثله الذكاء الاصطناعي العصبي ويرتكز على الفيزيولوجيا العصبية ويعتبر القوانين العامة تنبثق بصورة طبيعية عن طريق التعلم ويقر بأن البرنامج يمكن أن يحاكي بطريقة خارجية ناشطا ذكيا حيث تكون المداخل مطابقة تقريبا مع المداخل والمخارج التي يقوم بها الإنسان في وضعية مماثلة، ويبحث في أشكال المحاكاة بين اشتغال الحاسوب والاشتغال البشري. لكن وحدة الهدف المتمثلة محاكاة الذكاء وإعادة إنتاجه هي التي تجمع بين الاتجاهين الرمزي والعصبي.
في نفس السياق يؤدي انتقال الذكاء الاصطناعي من التحرك حول الإعلامية الكلاسيكية إلى الإعلامية المتقدمة إلى ارتباطه بالهندسة والتخلّى عن الطموحات الشمولية التي يدعيها واقتصر على معالجة الذكاء في مجموعه. تسمى الحقبة الرمزية تلك التي يستند فيها الذكاء الاصطناعي على تمثلات للعالم الخفي بواسطة عدد من الرموز وأضيف إليها الترابطية أو العصبية التي تتحدى البرنامج الأصلي للذكاء الاصطناعي الرمزي{12}.
إذا كانت المقاربة العصبية{13} تعتبر أن الذكاء الاصطناعي الرمزي قد وقع في تشويه كبير حينما قام بمعالجة المشاكل العرفانية {14} التي تنتمي إلى مستوى عال على غرار الاستدلال وفهم الكلام بدل الاكتفاء بمعالجة مشاكل شبه عرفانية تبقى قريبة من قوام الذكاء والمتمثل في الدماغ فإن المقاربة التواصلية تبحث عن محاكاة الدماغ في مستوى تنظيمه الداخلي وبنيته الهيكلية وفي مستوى تدفق المعلومات وعن إيجاد حلول كافية المشاكل التي صعب على الذكاء الاصطناعي الرمزي معالجتها بشكل كاف ومرضي. بطبيعة الحال تحوز المقاربة الترابطية على الذكاء عن طريق بعض الانجازات الإعلامية في رؤية الحد الأدنى وعبر القدرة التي يمتلكها النسق على تفعيل ارتباطات بين الوحدات العرفانية التي يتكون منها{16}.
لم يبق الذكاء الاصطناعي مجرد استعارة تنتمي إلى ماضي العلم وإنما تطور بشكل واثق وأصبح واقعا ملموسا وتكاثرت المقالات المبتكرة والبحوث المتطورة فيه وتوصلت إلى نحت جهاز مفاهيمي خاص به. كما يعتمد الذكاء الاصطناعي على نماذج ابستيمولوجية مرنة وخوارزميات تكوينية معقدة ويقوم بكشوفات رياضية مبتكرة وتطبيقات فيزيائية وبيولوجية ثمينة ويجمع بين الترابطية وإستراتيجية العجلات العصبية. أما التحليل الآلي الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي للغة الطبيعية فيقوم على التحليل الحتمي للكلام إلى وحدات وعناصر أساسية وبعد ذلك ينتقل إلى الكشف عن شبكات التحويلات والانتقالات المضاعفة ويحرص على تخليص آليات الفهم من الأخطاء ويقوم بتقسيم النحو إلى جوانب صورية ومقولية ودلالية وعرفانية ويعالج الصعوبات التي تحدث عند الكلام ويوفر أدوات مساعدة على النطق والتعبير والتبليغ ويطرح استراتيجيات لتحليل الخطاب ومعالجة الكلمات وتنظيم مصادر المعرفة والرجوع إلى الإحالات. أما المنطق الذي يفكر به الذكاء الاصطناعي فلا يقتصر على المنطق الكلاسيكي الذي يظل يدور حول البديهيات والمبادئ والأوليات الموروثة عن الإغريق والمطورة بواسطة الرياضيين المحدثين وإنما تشمل المنطق الجديد الذي ينجز حسابات حول القضايا والمحمولات والعلاقات من جهة الدلالات والخصائص والتركيبات البنيوية ويمتحن الأوليات ويراجع البديهيات ويغير في جل المنطلقات والمصادر والتطبيقات. مراكز عمل الذكاء الاصطناعي هي تطبيقاته على الهندسة المعمارية وعلم الفلك والفزيولوجيا والآلات الرمزية التي تجري معالجة رمزية للغة التقنية وتحوز على قدرة حسابية عالية وتتمتع بوظيفية ناجعة وتقوم بحل المشكلات المثارة عبر انتقاء التمشيات الملائمة وتطوير عملية البحث بالمناهج الاستكشافية. فكيف اعتمد الذكاء الاصطناعي على المنطق الحدسي الذي يرفض كل بناء غير بنائي في بعد قضووي؟
■ خاتمة:
على الرغم من عدم توفر تعريف محدد حول مسالة الذكاء الاصطناعي وبقاء هذا المصطلح محور خلاف ويعيش حالة جدلية إلا أن تقريبه من علم الحاسوب قد ساعد على تنزيله ضمن علوم الإعلامية وإدراجه داخل الثورة الرقمية التي تعيشها البشرية في الراهن وإتباع سلوك البرامج الحاسوبية في محاكاتها لأنماط عمل القدرات البشرية واكتسابه مهارات في الاستنتاج والتعلم ورد الفعل في أوضاع غير مبرمجة. لقد تكمن الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال من التشخيص السريع والدقيق للأمراض أكثر من أطباء الاختصاص حيث تتفوق برامج الحواسيب في التشخيص على تجارب يشارك فيها عدد كبير من الأطباء. لم يصبح الذكاء الاصطناعي اختصاصا مستقلا وقائم الذات بل يشير إلى جملة من المفاهيم والنظريات والتقنيات يتم استخدامها وإتباعها بغية بلورة مجموعة من الآلات تكون قادرة على محاكاة الذكاء البشري. لعل الذكاء الاصطناعي هو أكبر أسطورة في هذا العصر يستدعي العلوم العرفانية والبيولوجيا العصبية والمنطق الرياضي وعلوم الإعلامية ويبحث عن مناهج مبتكرة ودقيقة تساعده على حل المشاكل المعقدة. يواجه الذكاء الاصطناعي الكثير من العراقيل والصعوبات التي تمنعه من التقدم وتعيق تطره وذلك راجع إلى هيمنة الطبيعي على المصنوع وتعود العقل البشري بمنح الأولوية للتجريد على التطبيق والاختراع. منذ أن بحث الإنسان عن طرائق ومواد وبرامج تساعده على صناعة الآلات الذكية والحواسيب المفكرة كان أمله معقودا على نجاح هذه المصنوعات في اكتساب قدرات في التعلم الرمزي وفق أبعاد عرفانية. يعتمد الذكاء الاصطناعي على التعلم بواسطة التفسير والتحليل والشرح والفهم والإقناع ويقوم بالمراوحة بين ادارك العالم الحاضر وتوقع بالمستقبل المباشر أو البعيد ويعالج جملة من الأفعال لبلوغ غاية محددة. بيد أن رؤية الإنسان لنفسه وتفاعله مع المحيط التي يقترحها الذكاء الاصطناعي تبدو مختزلة وجزئية وتبسيطية وجملة الأفعال الإنسانية هي متقطعة إلى أقسام جزئية ومستقلة تماما عن فاعليها الحقيقيين. لقد تم تصور الإنسان على أنه آلة مفكرة وحاسبة ووقع التخلي عن كونه ذات مدركة لهويتها وللعالم ومتفاعلة مع محيطها ومتعاطفة مع غيرها من البشر وتقيم علاقات متشابكة وأساق رمزية وسردية. لقد ارتبط مصير الذكاء الاصطناعي باندلاع الثورة الرقمية وظهور الإنسان الآلي وقدرة الربوتيك على انجاز المطلوب منه بجودة عالية وبالشركات البنائية ذات الأبعاد الحضرية وإطلاق المنصات الإعلامية. في نهاية المطاف يبدو من المهم فهم صورة الإنسان من منظور البرمجيات التي توفرها الآلات الحاسبة ولكنه من غير المتاح أن يحقق جل طموحاته الوجودية وأهدافه المعنوية إذا ما اختزل نفسه في آلة ذكية. فمتى يتخطى الذكاء الاصطناعي عتبة التعميم والتشخيص والاستنتاج ويتحول إلى قوة اختراع وإبداع؟ إلى ماذا تشبه الآلات الذكية غدا؟ وهل يحق للعقل البشري أن يتخوف من تطور الذكاء الاصطناعي؟ وماذا لو أصبح الدماغ البشري خاضعا لسلطة الذكاء الاصطناعي؟
=============
الإحالات والهوامش:
=============
[1] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.
[2] Tournant cognitif
[3] Théorie neuronale
[4] Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.p05.
[5] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993. p705
[6] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p705.
[7] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p706.
[8] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p708.
[9] Lucien Sfez, les fondements de l’intelligence artificielle, op.cit,p709.
[10] Voir J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.
[11] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, in Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris, p710.
[12] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.
[13] Approche neuronale
[14] Problèmes cognitives
[15] Connexionnisme
[16] Joanna Pomian, Itinéraire en intelligence artificielle, op.cit,p711.
المصادر والمراجع:
J.L,. Lautiere, Intelligence artificielle : résolution de problèmes par l’homme et la machine, édition Eyrolles, Paris, 1985.
Dictionnaire critique de la communication, édition PUF, Paris,1993.
Renouveau de l’Intelligence artificielle et de l’apprentissage automatique, Académie des technologies, Mars 2018.
==============
○ زهير الخويلدي
2019 / 4 / 13
==============

الأحد، 28 يوليو 2019

رقمنة اللغة العربية ورهان مجتمع المعرفة

◄ اللسانيات الحاسوبية: ===========
رقمنة اللغة العربية ورهان مجتمع المعرفة
========================
 تأطير:
مما لا شك فيه أن اللسانيات الحاسوبية فرع تطبيقي حديث، يستغل ما توفره التكنولوجيا المُتطورة من أجل بلورة برامج وأنظمة لمعالجة اللغات الطبيعية معالجة آلية.
وبما أن اللغة العربية لغة انصهارية، فإنها أسبق من غيرها إلى أن تلج إلى الآلة، بِحُكم التضخم التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم حاليًّا؛ لذلك تمَّ التفكير في جعل اللغة العربية لغة مواكبة للتطور الحضاري والعلمي، وليس هناك وسيلة سوى حوسبتها؛ لِمَا تملكه من خصوصيات تؤهلها لتلِجَ مجتمع الصناعة اللغوية العالمية.
ولعل أول ما وجَّهَنا لاختيار هذا الموضوع هو الوقوف عند أعمال جليلة لبعض العرب - والمغاربة على وجه التحديد - في التنظير والتأسيس للمجال مع إعدادهم لبرامج مختلفة، ومساهمة منا في إبراز جهود المغاربة في هذا الصدد، انشغلت هذه الورقة بموضوع: اللسانيات الحاسوبية: رقمنة اللغة العربية ورهان مجتمع المعرفة، وهو عمل من ضمن مشروع بحث قمنا به بعنوان: "جهود وإسهامات المغاربة في المعالجة الآلية للغة العربية: الدكتور محمد الحناش نموذجًا".
ونأمل أن يكون هذا العمل انطلاقة لمجموعة من الأبحاث في نفس المجال، سواء فيما تعلَّق بالوسائل التعليمية، أو ديداكتيك اللغة العربية، أو في مجال اللسانيات.
• تمهيد:
إن اللسانيات منذ عهدها البنيوي لا زالت تشهد تطورات وقفزات علمية كبيرة، تجسَّدَت في انفتاحها على علوم عديدة، مِن قَبيل: علم الاجتماع، وعلم النفس، والهندسة والحاسوب؛ مما أدى إلى تنوع فروعها، ومنها أساسًا اللسانيات الحاسوبية، هذه الأخيرة تمثل ذلك الربط بين اللغة والحاسوب، وللإحاطة بهذا الفرع من اللسانيات التطبيقية، لا بد من معرفته، والوقوف عند تطوراته ومنجزاته.
1- اللسانيات الحاسوبية: مفهومها، تاريخها، وأهم منجزاتها:
1- مفهوم اللسانيات الحاسوبية:
تتعدَّد تعريفات وتسميات [1] اللسانيات الحاسوبية، ومعها يصعب إعطاء تعريف جامع وشامل لها، لكن ما يمكن أن يجمع بينها هو أنها "دراسة علمية للغة الطبيعية من منظور حاسوبي، وهذه الدراسة لا يمكن أن تتم إلا ببناء برامج حاسوبية لأنظمة اللغات البشرية من خلال تقييس ومحاكاة نظام عمل الدماغ البشري لنظم عمل الحاسب الآلي"[2]، وهناك مَن يعرِّفها بأكثر من ذلك، ويذهب إلى اعتبارها "الدراسة العلمية للنظام اللغوي في سائر مستوياته بمنظار حاسوبي، ويتجلى هدفها في تطبيق النماذج الحاسوبية على الملَكة اللغوية"[3].
وفي هذا الإطار، كانت اللسانيات الحاسوبية ذلك العلم الذي يحاول ربط علاقة بين علمي اللسانيات والمعلوميات، قصد معالجة اللغات الطبيعية معالجة آلية، فجعلت من موضوعها الرئيس تعليم وتعلُّم اللغات كمجال أساس للدراسة والتجريب.
والحاسوب آلة ذكية، تحاكي في قدرتها وظائف الإنسان وقدراته الذهنية؛ لذلك هدفت اللسانيات الحاسوبية إلى "تفسير كيفية اشتغال الذهن البشري في تعامله مع اللغة، معرفة واكتسابًا واستعمالًا"[4]، بمعنى أنه "أصبح في إمكان الحاسوب محاكاة نمط اشتغال العقل الإنساني وتقييسه من خلال لغة صورية خوارزمية أشبه ما تكون باللغة الصناعية، كما أصبح أيضًا مجالًا تطبيقيًّا لاختبار الفرضيات حول الطريقة التي يشتغل بموجبها العقل الإنساني"[5].
وعليه، "فبعد أن كان الحاسوب آلةً ذات قدرة عظيمة في التعامل، وبسرعة فائقة، مع أعقد العمليات الحسابية وأطولها، أصبح في تطبيقات تكنولوجية المعلومات المتقدمة آلة ذكية قادرة على تداول مختلف المعلومات وتحليلها وتداولها"[6].
والعصر الذي نحيا تحت ظلاله هو عصرُ التفجُّر المعرفي، والانتشار الثقافي الخاطف، والعلم، والثقافة، والتكنولوجيا، والاتصال، والمعلوميات، ولقد أحدثت هذه التطورات بأدواتها ووسائلها "تأثيرًا بارزًا على مختلف مناحي الحياة اليومية للأفراد والجماعات، إلى درجة أصبح الكل يستغل نتائجها وتطبيقاتها في إنجاز عمله، وبموجب هذه الظاهرة طرأت تغيرات جذرية على مختلف الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، ومِن ثمة أصبح يعيش على إيقاع الانفجار المعلوماتي"[7]، وبذلك بِتْنا نجد صدى لتقانة الحاسوب في الإدارة، والأبناك، والاقتصاد، والتعليم، واللغة، إلخ، وبهذا، فالحاسوب قدَّم خِدمات مرِنة وسخية وجليلة للإنسان في مجالات عديدة، ويُعَدُّ المجال اللغوي من أبرز تلك المجالات، وهذه الاستفادة تزداد يومًا بعد يوم.
لذلك كان الحاسوب الركيزة الأساسية في هذا الفرع اللساني التطبيقي الحديث المتصل بالذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، باعتبار هذا الأخير يُركز على قواعد المعارف الأعمق والأشمل من قواعد البيانات، واللغة العربية استفادَتْ منه كثيرًا في إنجاز تطبيقات لغوية حققت بها قفزة نوعية؛ مما يفسر أنه لا حل لمُعْضلة اللغة دون اللجوء إلى أساليبِ الذكاء الاصطناعي وهندسة المعرفة، سعيًا إلى عالميتها ووَحْدتها.
"وقد توصلت بحوث الذكاء الاصطناعي إلى أن الوظيفة الأساسية للعقل البشري التي تميزه عن العقل الحيواني، هي مقدرته على إنتاج الأنظمة الرمزية واستعمالها، وعلى رأسها النظام الرمزي اللغوي المستعمل في: التواصل، وتمثيل المعلومة، وتخزين المعرفة، ونقلها، فقامت برامج الحاسوب على هذا الأساس"[8].
وتختلف اللسانيات الحاسوبية عن نظيرتها العامة في نقاط عديدة، وهي - على سبيل الذكر لا الحصر - كما يلي:
أولًا: اللسانيات الحاسوبية فرع تطبيقي صوري اهتم بالتقنيات المعلوماتية والاتصالية،
ثانيًا: تقوم على التخطيط والتنظيم والبرمجة،
ثالثًا: إن المُهتم باللسانيات الحاسوبية ينفتح على العلوم الحديثة والتطورات التكنولوجية والعلمية.
وعمومًا، فإن اللسانيات الحاسوبية تسعى إلى الدراسة العلمية للغات الطبيعية باعتماد أنظمة وبرامج متقدمة ومتطورة، واللغة العربية من بين تلك اللغات، وبهذا الاعتبار فإنها تحويل كل ما يتصل باللغة من صرف ونحو وغيرهما إلى صورة رقمية فرضتها الثقافة الصورية الحديثة، وعليه، يكون المنشغل بهذا المجال العلمي الصوري الحديث يرُومُ إلى صياغة نماذج صورية تحاكي اشتغال المَلَكة اللغوية لدى الفرد.
2- النشأة والتطور:
ترجع البداية الأولى للسانيات الحاسوبية إلى فترة ظهور الحاسوب عام 1948م؛ إذ شكَّل أداة مُسخرة لكل المعارف والمعالجات، لتكون اللغة العربية من اللغات المُوجهة إلى المعالجة الآلية، وفي هذه الفترة، تم تحقيق ترجمة آلية باعتماد الحاسوب من لغة مصدر إلى أخرى هدف، وقد مثَّلت اللغة الإنجليزية المحطة الأولى للمعالجات الحاسوبية، لكن هذه الترجمة لم تحقق الأهداف المتوخاة منها؛ نظرًا لغياب العتاد اللساني القادر على استيعاب خصائص النقل من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف.
ومما تجدر الإشارة إليه: أن هذه البادرة الأولى قام بها الغرب، أما عن نصيب العرب من العملية، فلم يتأتَّ إلا عام 1971م، حين تم اعتماد الحاسوب قصد الدراسة الإحصائية للألفاظ، وهي عملية لا يمكن اعتبارها معالجة آلية، وإنما إحصاء لغوي باعتماد الحاسب.
3- المنجَزات ومجالات الاشتغال:
إن تطبيق اللسانيات الحاسوبية في عدة مجالات خلَّف منجزات قيِّمة، مِن أهمها ما يلي:
أولًا: التوثيق:
ويُعرَف بأنه "شكل من أشكال العمل الببليوغرافي الذي يستخدم وسائل متعددة؛ كالكشافات والمستخلصات والمقالات الببليوغرافية، إضافة إلى الوسائل والطرق التقليدية الأخرى؛ كالتصنيف والفهرسة؛ وذلك لجَعْل المعلومات سهلةَ المنال، والوصول إليها سهلًا أيضًا"[9].
ويُتوخى من التوثيق معالجة الوثائق والمعلومات الواردة بها بشكل يسهِّل على الباحث ولوجها، واستدعاءها عن طريق التجميع والاستخلاص والنشر، وذلك كالتصنيف الأتوماتيكي للملفات، والمؤلفات تبعًا لفهارسها أو مؤلفيها أو مواضيعها، وعليه فإن "البرامج اللسانية الحاسوبية ترمي إلى توثيق المعلومات التي ترِدُ على الذهن البشري"[10].
ومع الثورة التكنولوجية الواسعة النطاق، أضحى الحاسوب أشبه ما يكون بالغرفة أو القرية الصغيرة، مما سهل عمليات تبادل المعلومات بين الشعوب والأمم، ويسَّر أيضًا عمليات تخزين المعلومات وأرشفتها كيفما كان نوعها، ومهما بلغ حجمها.
ثانيًا: صناعة المعجم الإلكتروني وتطوير العمل المصطلحي:
يتطلَّب بناء المعجم الإلكتروني صياغة المصطلحات وتعميم استعمالها ونشرها وتداولها، إلا أن هذا الصنف من المعاجم يلم إلمامًا كبيرًا بجميع مستويات اللغة؛ أي إنه يعتمد على أدوات مُشفَّرة، وقاعدة معطيات مُرمَّزة تخص مستويات اللغة؛ نحوًا ودلالة، بحيث تخضع المادة المعجمية فيه لبناء يلم إلمامًا دقيقًا بفروع اللغة.
ويشترط في المعجم الإلكتروني "أن يكون شاملًا وعامًّا؛ لأن البرنامج اللساني المُعَدَّ للمعالجة الآلية لا ينبغي أن يفشل في العثور على أية معلومة كيفما كان نوعها وكيفما اتفق؛ لأن أي خطأ في المعلومات المدخَلة من شأنه أن يتسرب إلى باقي مفردات الجملة، أو قل: النص برمته، ومن ثمة يعرقل عملية اشتغال البرنامج"[11]، كما يشترط في المعلومات أن تكون في المعجم الإلكتروني واضحة موائمة للمداخل المعجمية المراد معالجتها آليًّا، ومِن هنا يظهر توظيف واستغلال تقنيات المعلوميات في الأعمال التطبيقية لصناعة معاجم مصطلحية باعتماد برامج معينة، وللمغاربة جهود كبيرة فيها.
كما تسعى اللسانيات الحاسوبية إلى إنشاء بنوك للمصطلحات، انطلاقًا من تخزين المصطلحات مُرفَقة بمعلومات عن كل مصطلح مفرد، ستكون مساعدة للمترجمين والمحررين والمتعلمين، مع دعم الترجمة الآلية وبناء المعاجم المختصة، وتُخوِّل البنوك المصطلحية تخزين معطيات دقيقة عن كل مصطلح في ضوء نصوص موثقة، مع ذكر مقابلاته بلغات متعددة، وتوضيح مجالات استخدامه، وأساليب توظيفه، وكذا الإشارة إلى مرجعه، سواء كان معجمًا أو معهدًا علميًّا، أو نصًّا، أو وثيقة.
وبهذا، فإن المعجم الإلكتروني له علاقة بالبنوك المصطلحية، وذلك من خلال تنظيمه لها، وهو ما لا تيسِّره ذاكرة الإنسان المحدودة.
ثالثًا: الترجمة الآلية ( Automatic Traducion):
تقتضي الترجمة الآلية نقل النصوص والأعمال والأبحاث من اللغات الأصلية المصدر إلى اللغات الفرعية الهدف، وتعد اللغة الإنجليزية اللغة الطبيعية الأولى التي خضعت لهذه العملية، ويتجلى موضوع الترجمة في "تحليل النص الأصلي ونقل عناصره من اللغة التي سيترجم إليها، ثم توليد هذا النص اعتمادًا على التحليل والنقل"[12]، بهذا القول تكون الترجمة هدفها بناء نظرية في النقل (نقل المحتوى) من لغة (أ) إلى لغة (ب) مع مراعاة خصوصيات النقل التي تفرضها اللغة المستهدفة.
والحاسوب باعتباره أسَّ العملية يُزوِّد المستخدم بالترجمة المطلوبة إن كانت مسجلة في ذاكرته، لكن في حال غيابها فإنه يقترح عليه مقابلًا له؛ لذلك فالأمر يفرض توفير المصطلحات والتراكيب المتقاربة، نظرًا لتعدُّد معاني ومقاصد الألفاظ في اللغات الطبيعية، خاصة اللغة العربية منها، التي تبقى ألفاظها مشروطة بالسياق الاستعمالي التداولي والتركيبي، كما أن الترجمة الآلية رهينة "التدخل البشري المطلوب لتوضيب النص قبل ترجمته Pre - editing، أو تهذيبه بعد ترجمته Post - editing"[13]، هكذا تكون الترجمة الآلية عبارة عن نص خام يحتاج إلى تقوية وتدعيم بشري من أجل تصفيته وترميم تراكيبه.
وعليه، فإن نجاحَ الترجمة الآلية الدقيقة والمطلوبة، رهين توفر خبرتين؛ الأولى: تتمثل في خبرة اللسانيِّين العارفين باللغة أكثر من غيرهم في قواعدها؛ نحوًا ودلالة وتركيبًا وصرفًا، والثانية: تتجسَّد في خبرة الحاسوبيين المهتمين بالمجال المعلوماتي التقاني في تصميم برامج وأنظمة لتوصيف اللغات الطبيعية بشكل يتماشى ومتطلبات عصر التكنولوجيا والاتصالات، من أجل مواكبة الحضارات العالمية المتقدمة في المجال اللغوي الآلي.
وتبقى الترجمة الآلية "وسيلة فعالة من وسائل توظيف المعرفة العلمية والتقنية في المجتمع العربي؛ لأن معظم المعرفة قد أُنتجت ونُشرت وحُفظت باللغة الإنجليزية، وللوصول إليها لا بد من تفعيل دور الترجمة ومؤسساتها، وبهذا فإن الترجمة الآلية من اللغات الأخرى إلى العربية أو العكس تعتبر سبيلًا لسد الفجوة العلمية الناتجة عن تضخم الإنتاج العالمي الثقافي بالقياس إلى نظيره العربي"[14].
رابعاً: إنتاج النصوص:
يعتبر الإنسان كائنًا مفكرًا ومنتجًا في نفس الوقت، يُولِّد ويُطوِّر ويُعدِّل إبداعاته، وعملية التعديل هاته تحتاج إلى جهد ووقت؛ لذلك كانت الحاجة إلى وسيلة تعوِّض الإنسان وتقيه عناء المراجعة والتصفح لمرات كثيرة، فكان الحاسب بمحاكاته لذهن البشر خيرَ بديل، معتمدًا في ذلك برامج وأنظمة تُمكنه من إعادة تصحيح ومراجعة النصوص، وتخزينها في ملفات مغلقة تُفتَح كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وبالتالي، فالحاسوب وفر إمكانية الإنتاج النصي المتعدد كالمراسلات، والدعوات، والتعليقات الصحفية، والإعلانات الإشهارية، وهلم جرًّا.
خامسًا: تعليم اللغات والتعريف بالثقافات:
إن اللسانيات الحاسوبية علم تطبيقي، اهتمَّ بمجال أساس هو تعليم وتعلم اللغات والثقافات، وقد اعتمدت لتلك الغاية الحاسب، باعتباره من أهم الوسائط التي تمزج بين الصوت والصورة والكتابة، والهدف الأسمى من هذه العملية هو تجاوز الطرق التعليمية التقليدية القائمة على "التلقين والتحفيظ والتسميع؛ أسلوبًا أساسيًّا ورئيسيًّا في نقل المعرفة"[15]، وإيجاد طرق جديدة تمكن من استغلال قدرات الحاسب من لدن المستخدمين، الشيء الذي أدى إلى إعداد برامج حاسوبية تعليمية، تتماشى مع النظريات البيداغوجية والتعليمية الراهنة.
وقد أنجزت مجموعة من البرامج التعليمية الخاصة باللغة العربية، ولشركة صخر جهود في إعداد برامج لتعليم اللغة العربية، ومن تلك الأنظمة نذكر - على سبيل الذكر لا الحصر - ما يلي: برامج أ. ب. ث، ويماها yamaha، والمدقق الإملائي، وغيرها كثيرة.
كما حظي المجال الثقافي بنفس الأهمية من خلال إعداد مجموعة من البرامج والأنظمة التثقيفية، التي تسعى إلى تنمية الرصيد المعرفي الثقافي العربي، ومن تلك البرامج:
برنامج التاريخ الإسلامي، وبرنامج رحلة مكة، وبرنامج موسوعة الحديث النبوي الشريف، وبرنامج موسوعة القرآن الكريم، وهذا الأخير يُمكِّن المستخدم من معاينة النص القرآني بالرسم العثماني، مع الاستماع إلى التلاوة، بالإضافة إلى الوقوف على الأحكام، والقواعد القرآنية المُشار إليها غالبًا بالألوان المغايرة.
2- اللغة العربية والحاسوب:
تمهيد:
تهدف اللسانيات الحاسوبية إلى استغلال التقنيات التي يقدمها الحاسب لمعالجة اللغة العربية وهندستها استجابة لتطورات العصر نظرًا لخصوصيتها الصورية (الجاهزية)، وأمر المعالجة يتطلب معرفتين؛ الأولى: لسانية تلمُّ بكل التفاصيل الدقيقة للنظام اللغوي، والثانية: حاسوبية تضع برامج وفق قواعد خوارزمية وصورية.
1- نظرة تاريخية مختصرة حول الربط بين مجالي الهندسة واللغة:
تعد الهندسة فنًّا للتحكم في النظم الحاسوبية البرمجية، أما اللغة فهي نظام معقد ومتشعب المسالك من حيث الكتابة والمستويات اللغوية، وهما معًا يشكلان الهندسة اللغوية، التي تعتمد البيانات والمبادئ الصورية المتحكمة في نظام تشغيل اللغة في دماغ الإنسان، وبهذا يكون قد طرأ تحوُّل في مجال البحث اللغوي من بحث في اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها إلى بحث في كيفية إنتاجها ومعالجتها.
وفي إطار الربط بين الهندسة واللغة، فإن بدايته كانت في أربعينيات القرن المنصرم، خاصة بالدول الغربية، وذلك من خلال ما قدمه الباحثون من برامج كثيرة "تجعل الحوارَ بين الإنسان الغربي والآلة ميسرًا بلغته الطبيعية، ونذكر منها: الترجمة الآلية، والتوليف الصوتي، والتعرف البصري على الحروف، والمدقِّق النَّحْوي والإملائي"[16]، ومعنى هذا أن بداية الربط بين اللغويات والتقنيات المعلوماتية، كانت مع برنامج الترجمة الآلية، فقد "صاحب ظهور الكومبيوتر في أواخر الأربعينيات تفاؤل شديد عن استخداماته المحتملة في مجالات التحليل اللغوي والترجمة الآلية، وكما هو متوقع باءت المحاولات الأولى بفشل ذريع (...)، وهما بمثابة تصريح الدخول لساحة المعالجة الآلية بواسطة الكومبيوتر"[17].
وعليه، فهذا المنجز استخدم في أول ظهوره لأغراض عسكرية وإستراتيجية، من خلال ترجمة الوثائق العسكرية من أجل تسخيرها لمخططات عسكرية، فبرزت معها نظرية في النقل (transfer)، لكن هذه الترجمة كانت فاشلة بكل المقاييس، ولم تحقِّقِ الأهداف المتوخاة منها؛ نظرًا لأنها ظلَّتْ في تلك الفترة تقوم على ترجمة مفردة بمفردة أخرى، في حين أن الترجمة الحقيقية لا يمكن أن تتم إلا بالاعتماد على عنصر السياق الذي يُحدد المعنى.
وسيتم تجاوز هذه المرحلة نظرًا لظهور مستجدات لسانية، تمثلت في "نضج النظريات اللسانية الآلية، ومنها نظرية النحو التوليدي التحويلي مع تشومسكي وتلامذته، وبذلك حققت الترجمة الآلية على يد الروس والأمريكان والأوربيين تقدمًا ملحوظًا، تمثل في إنجاز ترجمة بمستوى عالٍ، وبكفاءة واضحة للنصوص العلمية والتقنية"[18]، وهي نظرية، التوليدية، قائمة على نسق هندسي اشتغلت بالكفاية لدى المتكلم المثالي في مُحاولة منها نسخها على الحاسب، وهي الفترة التي أثارت ارتياحًا كبيرًا لدى المهتمين بالمجال الهندسي للغة بعدما "أصبح الطريق مُمهدًا لدخولها مرحلة المعالجة الآلية تأكيدًا لوصولها لمرحلة متقدمة من النضج العلمي"[19]، نظرًا للتسلح بترسانة من المفاهيم اللازمة والتطبيقات الهندسية الموائمة والضرورية.
أما بالنسبة للإسهامات العربية بخصوص المعالجة الآلية للغة، فالعرب لم يعرفها إلا في السبعينيات، واللغة العربية لغة توليدية اشتقاقية بامتياز، لا تباريها في ذلك أي لغة أخرى، وهي تعتمد أساسًا على الجذر والوزن، بينما اللغات الأجنبية - ومنها الإنجليزية - لغة إلصاقية؛ فاللغة العربية تنطلق من الجذر، فتضيف إليه الحركات ليتشكل الوزن، وانطلاقًا من هذا الأخير نصل إلى اشتقاق وتوليد عدد لا نهائي من الكلمات والأوزان، لنأخذ الجذر:
- ق و ل + حركات = : قوْل، قيل، قال، يقول، مقال.. إلخ.
هذا الأمر جعلها من اللغات الطبيعية التي تتسم بالجاهزية، وهي سِمة تجعل منها لغة رياضية جبرية قابلة للرقمنة والحوسبة، وبالتالي، فاللغة العربية هندسيًّا تستجيب لأبرز المعايير الهندسية والصناعية، لتكون بذلك لغة انصهارية مخالفة للغات الهندو - أوربية القائمة على عملية "الإلحاق أو الإلصاق"[20].
وقد كان أول مجال للمعالجة الآلية للغة العربية مجال الإحصاء اللغوي للألفاظ، فشكَّل هذا المجال الإرهاص الأول لمعالجة اللغة العربية بواسطة الحاسوب، ليتم فيما بعد تطوُّر المعالجة عبر تطبيقات معلوماتية شمِلت مجالات عدة: كالصَّرْف، والتركيب، والمعجم.
صفوة القول: إن "العلاقة بين الحاسوب واللغة إذًا علاقة تبادلية؛ وذلك أن دراسة اللغْة من منظور قياسي هندسي تكشف القناع عن أسس علوم اللغة والقدرات اللغوية وكيفية قيام الذهن البشري بعمليات تحليل اللغة واكتساب الخبرات واسترجاع المعلومات، وفي الوقت نفسه، تسهم اللغة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الذي يسعى إلى محاكاة وظائف الذهن اللغوية والقدرات البشرية"[21].
2- تطبيقات لغوية آلية على اللغات الطبيعية:
.1.2. مكونات العتاد اللساني:
المحارف العربية: سعى المهتمون بمجال المعالجة الحاسوبية للغة العربية إلى إعداد برامج موائمة للكتابة العربية، قائمة على حرف عربي آلي مُوحَّد في لوحة المفاتيح، وهذا العمل يتكون من شقين أساسيين، هما:
 الشق الأول:
• يعتمد قواعد خوارزمية صورية ضابطة لرسم الحرف العربي.
• يعمل على مراعاة الحجم والاتجاه الذي يرغب فيه المستخدم.
 الشق الثاني:
• يسعى إلى توحيد لوحة المفاتيح بين مختلف الدول العربية؛ مِن أجل تيسير عملية نقل البيانات، ونشرها وتبادلها.
• يحفَظ الوثائق باللغة العربية؛ لضمانِ تبادلها بين المستخدمين العرب.
• ومن بين الأعمال في هذا الصدد نذكر - على سبيل الذكر لا الحصر - جهودَ منظمة "المواصفات والمقاييس، بوصفها شفرات المحارف الخاصة بتنميط لوحة المفاتيح العربية الحاسوبية ووضعها في الجهاز رهن إشارة المستخدم"[22]، وبالتالي الاستجابة لمتطلبات العصر بتنميط لوحة مفاتيح مستوعبة لكل المحارف العربية وأشكالها التعبيرية والهندسية.
برامج البحث العلمي: تهدف إلى استغلال ما يوفره العتاد اللساني بغية ميكنة اللغات الطبيعية، ومن ضمنها اللغة العربية، ونظرًا لتشعُّب مجالات تطوير البرامج الخاصة بالبحث العلمي، فسيكون علينا أن نخصص الحديث في خمسة أصناف، وهي كما يلي:
 التعرُّف البصري على الحروف:
• يهدف إلى "إكساب الحاسب مهارة قراءة المحارف قراءة صحيحة، سواء منها المطبوعة أو المكتوبة باليد"[23].
• يعتمد قواعد خوارزمية صورية، تقوم بتقطيع وتَجْزيء الكتابة بُغية التعرف على الحروف.
• يواجه البرنامج مشكلةَ اعتماد اللغة العربية على الحركات وتعدُّد الضمائر.
• أمر قراءة الحاسب للحروف يتطلب نجاح برنامج رسم المحارف العربية بالحاسوب، كما يتوقف على قواعد البيانات الصرفية، التي ترشد القارئ الآلي (الحاسوب) إلى طريقة تقطيع الكلمات في الواقع الورقي أو الحاسوبي.
 التوليف الصوتي:
• يهدف إلى إكساب الحاسب مهارة قراءة النصوص قراءة صوتية.
• يمنح القدرة للحاسب على تحويل الكلام المنطوق إلى نص مكتوب.
ولعل اعتمادَ اللغة العربية على الصوامت دون الصوائت وغيرها خصوصيات جعلتها أكثر اللغات استجابة للحوسبة؛ شريطة استكمال العتاد اللساني القادر على استيعاب خصائص العملية، كما يمكن استخدام هذه التقانة في عدة مواضع، نذكر منها - على سبيل الذكر لا الحصر - ما يلي:
• تمكين المُعوَّقين من النطق باللغة العربية،
• الإملاء الآلي باللغة العربية،
• تمكين المتدرِّبين على اللغة العربية من النطق الصحيح لأصواتها بحركاتها المناسبة،
• تحقيق الترجمة الآلية الشفوية، وخاصة عن طريق الهاتف.
ويبقى الهدف الأسمى من التوليف الصوتي، إكساب الآلة "مهارة الضبط الصوتي للنصوص المُدخلة دون ارتكاب أخطاء إملائية بين الأصوات المتشابهة والمتقاربة في المخارج"[24]؛ لذلك تم إنشاء مجموعة من مراكز الأصوات في جامعات مختلفة؛ كمختبر الصوتيات في فرنسا، ومختبر معالجة الإشارة الصوتية في المغرب، ومختبر المعلوميات والاتصال في تونس، ثم معهد الصوتيات في المملكة العربية السعودية، وغيرها كثيرة.
 الترجمة الآلية: يتعامل الحاسوب مع الترجمة وفق طريقتين:
◘ الطريقة الأولى:
• يقوم الحاسب بترجمة المفردات، وتقديم مكافئاتها في اللغات الهدف؛ ليوظفها المستخدمُ في تحريره للنصوص.
• لا يتعدى إلى ترجمة معاني المفردات التي تكتسبها في السياق الاستعمالي والتركيبي.
◘ الطريقة الثانية:
• تحقق فيها ترجمة لغوية دقيقة للغة في مستوياتها الصرفية والنَّحْوية والمعجمية والبراغماتية.
• ينبغي حصر المفردات والمصطلحات في نطاق خاص بكل قطاع أو مجال (المعاجم الخاصة نموذجًا)، وبالتالي ربح الوقت؛ لأن الترجمة المُتحققة هنا خاصة أو مختصة بعد تجميع المصطلحات والمفردات.
 المدقق الإملائي والنَّحْوي والمشكل الآلي:
• يهدف المدقق الإملائي إلى تعرف الحاسب على بنية "الكلمة العربية من خلال القواعد التي يضعها اللسانيون، لا من خلال معجم الكلمات المخزنة"[25]، الشيء الذي يظهر أهمية الخبرة اللسانية في الصناعة اللغوية.
• المدقق النحوي: يُدقق في النص المكتوب؛ مِن أجل الوقوف عند الأخطاء الهجائية والنَّحْوية فيه؛ لكيلا يتم الحُكم على عدة جمل وكلمات صحيحة لغويًّا بالخطأ، نتيجة ضعف العتاد اللساني الذي جعل مرحلة الترجمة الآلية الأولى دون المرجو.
• يقُوم المشكل الآلي بضبط النص العربي على مستوى الشكل، بناءً على ما خُزِّن من قواعد عربية في ذاكرة الحاسب.
وبالتالي، فمن خلال هذه البرامج اللسانية التي يمكن أن ندرجها ضمن المجال التركيبي، يتضح جليًّا ما تتطلبه الهندسة اللسانية من معرفة لسانية أولًا، ثم معرفة حاسوبية ثانيًا، وهي ثنائية لا تقبل الفصل ولا المجاوزة.
 برامج التعليم وأهدافها: يمكن تقسيم برامج التعليم إلى نوعين، هما كما يلي:
النوع الأول:
• تتميز بكونها محلية، توضع على الحاسب أو في أقراص مضغوطة، تتوخى التفاعل بين المتعلمين والحاسب، بحيث يقوم هذا الأخير بدور المدرس.
• تُيسِّر عملية التعليم الذاتي، ويقصد به "تمكين المتعلم من الاعتماد على نفسه بصورة دائمة مستمرة في اكتساب المعارف والمهارات والقدرات اللازمة لتكوين شخصيته واستمرار تربيته لذاته بما يمكنه من التواؤم الإيجابي السوي مع متطلبات الحياة في مجتمع سريع التغير"[26]؛ مما يوضِّحُ أن المجهود يكون نابعًا من المتعلم بعد أن كان العبء ملقًى على كاهل المعلم في المنظور التربوي التقليدي.
• لا تستطيع تلبية جميع الأهداف التربوية في مختلف المستويات نتيجة محدوديتها.
النوع الثاني:
• وتكون مُوجهة إلى عدد أكبر من المتعلمين والمستخدمين، باعتماد شابكة الإنترنت كوسيلة للتفاعل العالمي.
• تمكِّن المستخدم من توسيع دائرة الحوار المباشر، بآرائه المعروضة على الشابكة، ثم تلقي الرد الفوري في حوار بين الآلة والإنسان بصورة شبه طبيعية على هيئة أسئلة وأجوبة، بناءً على ما هو مخزن في ذاكرته، أو بواسطة برامج تعليمية مُنزَّلة.
• ومِن أمثلة ذلك: برنامج (black board) المعتمد بجامعة الإمارات العربية المتحدة، الشيء الذي ساهم في تحسين العملية التعليمية.
• اصطلح عليها برامج التعليم الدولي؛ لأنها تُخول التفاعل المتبادل بين المُعلِّم (ناقل المعرفة)، والمستخدمين من جميع أنحاء العالم.
 أهداف التعليم بالحاسب:
عمومًا، يمكن إجمال أهم أهداف البرامج التعليمية كما يلي:
• تحقيق التفاعل المتبادل بين الآلة التي تقوم بدور المدرس أو المرشد التعليمي، والمتعلم (المستخدم)،
• خَلْق الإثارة والتشويق والدافعية،
• القضاء على الفوارق الفردية،
•جودة إعداد المادة العلمية،
• تحقيق التعليم الذاتي،
• ضمان التقييم المستمر للطالب.
◄ خلاصة القول ►
إن اللسانيات الحاسوبية سعَتْ إلى صياغة نماذج صورية محاكية لما هو موجود في الذهن البشري، مستفيدة من التطور العميق لتكنولوجيا المعلومات المتقدمة في جميع المجالات، ويأتي المجال اللغوي في مقدمة الميادين الأكثر تأثرًا بتقانة المعلومات، واللغة العربية من بين اللغات المستفيدة، فقد حققت بها قفزة نوعية جعلتها تنخرط في مجال الصناعة اللغوية العالمية.
===========
 الإحالات
===========
[1] أعطيت مجموعة من المسميات للسانيات الحاسوبية نتيجة اختلاف المنطلقات والمرجعيات والخلفيات، ومن تلك التسميات نذكر - على سبيل المثال - ما يلي: اللغويات المعلوماتية، واللسانيات الحاسوبية، وعلم حساب اللغة.. إلخ.
[2] مهديوي، عمر، (2008)، توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - الجزء الأول، إشراف عبدالغني أبو العزم، جامعة الحسن الثاني - عين الشق - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الدار البيضاء، شعبة اللغة العربية وآدابها - وحدة علوم اللغة العربية والمعجميات، ص. 17.
[3] المرجع والصفحة نفسهما، عن نهاد الموسى، اللغة العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 1، 2000، ص. 53.
[4] اليوبي، بلقاسم، (1999)، اللسانيات الحاسوبية مفهومها و تطوراتها ومجالات تطبيقاتها، (استشراف آفاق جديدة لخدمة اللغة العربية وثقافتها)، مجلة مكناسة، العدد 12، ص. 44.
[5] مهديوي، عمر، (2008)، ص. 5.
[6] نفسه، ص. 2.
[7] نفسه، ص. 4.
[8] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ص - ص. 5 - 6.
[9] اليوبي، ص، 50، نقلًا عن برجس عزام، وكتابه مراكز المعلومات.
[10] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ص. 21.
[11] نفسه، ص. 90 وما بعدها.
[12] اليوبي، بلقاسم: اللسانيات الحاسوبية مفهومها وتطوراتها ومجالات تطبيقاتها، ص، 52.
[13] علي، نبيل: العرب وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة - الكويت - العدد، 184، إبريل، 1994، ص. 359.
[14] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ص. 36.
[15] السيد، محمود أحمد، (1998)، اللسانيات وتعليم اللغة، الطبعة الأولى، دار المعارف للطباعة والنشر، سلسلة الدراسات والبحوث المعمقة، العدد، 9، سوسة - تونس، ص، 137.
[16] الحناش، محمد: محاضرة في موضوع: اللغة العربية و الحاسوب، (قراءة سريعة في الهندسة اللسانية العربية)، أو مقاربة في محاكاة الدماغ العربي لغويًّا، أكتوبر، جامعة الإمارات العربية المتحدة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم اللغة العربية وآدابها، مؤسسة العرفان للاستشارات التربوية والتطوير المهني، 2002، ص، 3.
[17] علي، نبيل: العرب وعصر المعلومات، ص. 342.
[18] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة - مقاربة لسانية حاسوبية - ص. 18.
[19] علي نبيل: العرب وعصر المعلومات، ص. 344.
[20] اللغة الإلصاقية تنبني ألفاظها من مادة أصلية تتكون من مقطع أو أكثر تبقى مستقرة، وتعتمد على الصيغ الصرفية بزيادة زوائد مقطعية تلتصق بالمادة الأصلية على صورة سوابق ولواحق.
[21] مهديوي، عمر: توليد الأسماء من الجذور الثلاثية الصحيحة في اللغة العربية - مقاربة لسانية حاسوبية - ص - ص. 32، 33.
[22] الحناش، محمد: اللغة العربية والحاسوب، ص، 12.
[23] نفسه، ص. 15.
[24] الحناش، اللغة العربية والحاسوب، ص، 17.
[25] الحناش، اللغة العربية والحاسوب، ص. 19.
[26] السيد، محمود أحمد: اللسانيات وتعليم اللغة، ص139 - 140.
===========
◘ إبراهيم مهديوي ◘
===========